الابتلاء من محركات العمل
وضع الله سبحانه وتعالى سننًا في هذه الحياة لا تتبدّل ولا تتغيّر، منها أنّ المؤمن معرض للتمحيص والابتلاء على مستوى الفرد والجماعة، وقد جعل الله في هذا الابتلاء حكمة بالغة، فبه تتمايز الصفوف وتنكشف الوجوه، وبه يُعرف المؤمن من المنافق، وصاحب المنهج الذي يبتغي وجه الله وخدمة دينه وأمته، من صاحب الهوى الذي يريد بناء مجده الشخصي ومستعمراته على حساب الآخرين، وبه يتميز المجاهدون الذين يُضحّون ويبذلون النفوس عن الملثّمين الذين امتطوا شعارات الجهاد لإفساده وجمع الفلوس، فالصفّ القويم لا يمكن أن يستمر في السير وهو في حالة الخلط بين الحق والباطل، بين الأسود والأبيض، ولا بدّ من أن ينكشف الستار في مسرح الحياة، ولا بدّ من أن تنكشف النوايا والمخططات.
ويكون هذا التمييز بالتفريق بين ما هو متشابه في الظاهر، متباين في الباطن والجوهر والحقيقة، فيقع الفرز بعد الملمّات والخطوب والنّوب، وتسقط الأقنعة عن الوجوه وتنكشف السوءات، وتتحرك المياه التي كانت راكدة، ليتبين الصافي من العكر، وقد قدّر الله سبحانه وتعالى ألا يكون الفرز والتمييز إلا بعد أن تقع الشدة وتبلغ القلوب الحناجر، لا يكون ذلك إلا بعد أن يتابع المؤمنون السير في الطريق الذي اختاروه لأنفسهم، فتزداد المحن كلّما تمسكوا بمنهجهم، واتجهوا بكليتهم إلى هدفهم، {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}، وعلى قدر الحبّ والإخلاص يكون الابتلاء والاختبار.
وإنّ هذه المحن المتلاحقة من السنن الربانية في إظهار معادن النفوس، فكما أنّ الذهب لا يتميّز خالصه من الشوائب والمعادن الأخرى إلا بعد أن يتعرض إلى النار التي تحرقه، فالشدة والضغطان النفسي والجسدي عوامل تخرج مضمورات النفس البشرية و... اقرأ المزيد