سلسلة رسائل رواء
الرسالة الرابعة
"فينظرَ كيف تعملون"
نبارك لأهلنا في سوريا، وللأمة الإسلامية جمعاء، هذا الفتح المبين، والنصر العظيم. إن ما تحقق هو محض فضل من الله وحده ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ فالفتحُ فعله ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ والنصر نصره ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ ونسبة الفضل له أول الواجبات عند حدوث نعمة ودفع نقمة.
وبعد أن خفَّت دهشة الحدث، وانكشف ذهول الموقف، لا بد من التذكير بأمور:
1- نعلم أن الكيد من الخارج لم ينتهِ، بل جنّ جنون بعض الدول، فهم ما عملوا طيلة هذه العقود لينتهي الأمر على هذا المشهد، ولا يزالون يمكرون الليل والنهار ليستدركوا ما يُمكن استدراكه من خسارتهم، كما نعلم أن شبح المنازعات الداخلية لا يزال قائمًا، وأن هناك قلقًا من بعض توجُّهات وقرارات القيادة الجديدة، لكن كل هذا لا يُقلل من قيمة الإنجاز الذي تحقَّق، ولا يُزهّد في النعمة التي أنعم الله بها علينا، فلنَشكرها حق شكرها، فبالشكر تدوم النعم وتزداد ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾.
2- سنة الله التدرُّج، والله مكَّن لرسوله في ثلاثٍ وعشرين سنة، بل لم يكتمل التمكين إلا بعده بسنين، فلئن لم تُحقِّق الثورة كل ما كان يحلم به أهلها فلا يُحبطوا، ولعلَّنا قد استوفينا متطلبات استحقاق رفع الظلم عنا، لكننا لم نستوف بعدُ متطلبات التمكين. فلنُكمل مسيرتنا، ولنوقنْ أن الذي حقَّق لنا جزءًا من وعده (نصرة المستضعفين) حقيقٌ بأن يحقِّق كامل وعده بالتمكين في الأرض. فواجبُنا الآن السعيُ للتمكين بالإيمان والعمل الصالح، وإصلاح النفس، ثم إصلاح المجتمع، والمساهمة في بنائه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الأمر ليس منوطًا بالدولة فقط، ولا بفئة محددة من المجتمع، بل هو واجب الجميع كل فيما يحسن.
لما بشر الله أمَّ موسى ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ ما زال قلبها ﴿فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾، فحين رأت تحقيق وعده الأول ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ﴾ أيقنت بوعده الثاني. جاء في حديث الفتون عن ابن عباس رضي الله عنهما، "فلما رأت امرأة فرعون ما يصنع بها (أي إقبال الرضيع على الثدي) قالت: امكثي ترضعي ابني هذا، فإني لم أحب شيئًا حبه قط.قالت أم موسى: لا أستطيع أن أترك بيتي وولدي فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرًا فعلت، فإني غير تاركةٍ بيتي وولدي، وذَكَرَت أم موسى ما كان الله وعدها فتعاسرت على امرأة فرعون، وأيقنت أن الله منجز موعوده.
3- لما قال الله لموسى ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ كان قد قال قبلها ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا﴾، فلا بد من الفتن والابتلاءات للإعداد والاصطفاء. فالسنوات الـ 14 من الثورة لم تكن شقاءً محضًا، وبؤسًا مطلقًا، بل كانت إعدادًا لهذا اليوم وما بعده، واصطناعًا لمهماته الجسام. كان فيها الإعداد الإيماني، والجهاد، والعيش الصعب، والعمل المدني المنظم بأشكاله المختلفة، والتكافل، والوعي بالواقع المعقد، واكتساب الخبرات والمهارات، وتمييز الخبيث من الطيب، وغيرها كثير. لو سقط النظام يوم أن قُمنا بالثورة، ماذا يا ترى كان حالُنا الآن؟ سبحان الله، ما أحكم تدبيره، لكننا قوم نستعجل ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. فالوليُّ الحميد الذي دبَّرنا هذا التدبير معنا سبحانه، ولن يُخزينا طالما كنا معه حتى يُتم علينا نعمته.
4- وإن من أعظم ما تحقَّق في سنوات الثورة تعارُف السوريين بعضهم على بعض، وانخراطهم سويًا في فصائلَ عسكرية، ومنظماتٍ مدنية، وجمعياتٍ خيرية، ومجالسَ عُلمائية، ومراكزَ بحثية، وروابطَ مِهنية، يلتقي فيها أهل الشمال مع أهل الجنوب، وأهل المدن مع أهل الأرياف، واللاجئون مع المغتربين، على اختلاف توجُّهاتهم ومدارسهم وأنماطهم. ما كان أحوَجَهم إلى هذا المكتسب وهم خارجون من بيئة متفكِّكة منعزلة مشككة. هذا المكتسب يعدل كلَّ المكتسبات الأخرى ويزيد عليها، فالبشر هم جوهر أي مشروعٍ بنَّاء. ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾.
لا نزعم أن السوريين اليوم على قلب رجل واحد، لكن قارن بين حالهم قبل 14 عامًا وحالهم الآن، لتعلم كم هي منة الله عليهم في ذلك. وهذا والله أعظم المكتسبات للمرحلة القادمة، لقد أثمرت هذه الأعمال أرضية من الثقة، وشبكات من العلاقات تعين إن شاء الله في إرساء أسس متينة لبناء دولتنا. ووصية للجميع أن يحافظوا على هذا النعمة ويشكروها بترك أسباب التنازع والشقاق والأنانية والأثرة.
5- شريعتنا الغراء قامت على موازنة المصالح والمفاسد. ولا تكاد تجد حالة هي مصلحة محضة أو مفسدة محضة ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾. وليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين. ومن هنا، فما رجحت مصلحته على مفسدته، أتي به لأجل مصلحته، واجتهد في التخفيف من مفسدته ما أمكن. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإذا لم يحصل النورُ الصافي بأن لم يوجد إلا النورُ الذي ليس بصافٍ -وإلا بقي الإنسان في الظلمة- فلا ينبغي أن يعيب الرجلُ وينهى عن نورٍ فيه ظلمة؛ إلا إذا حصل نورٌ لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدَل عن ذلك يخرج عن النور بالكليَّة". وهذا الأمر ليس مرده إلى أفراد الناس، ولكن إلى أولي العلم والخبرة والاختصاص، ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، ثم الناس تبع لهم، وهذا شأن المجتمعات الراشدة.
لا يصلحُ الناسُ فوضى لا سَراةَ لهم ** ولا سَراةَ إذا جُهّالُهم سادوا
ومهما اختلف الناس في نظرتهم إلى ما آل إليه الوضع في سوريا، فإن مما لا ينازع فيه -بالنظر إلى ما قبله من الاستبداد والظلم والقهر تحت سلطة النظام الساقط أو الغربة والنزوح والشتات خارجه- أن خير هذا الحال أعظم من شره، وأن ما يحقق من مصالح الناس أكثر من مفسدته، فحق لمثل هذا الحال أن نحافظ عليه ونحميه، وما كان فيه من تقصير أن نعتذر له ونتغاضى عنه حتى تقر الأمور، وما كان من خطأ أن ننقده نقد الناصح الأمين، وأن نستعمل في ذلك الحكمة فنقطع الطريق على المتربصين، ومن يصطادون في الماء العكر.
اللهم أتمم علينا نعمتك وأسبغ علينا فضلك، وغير حالنا إلى أحسن حال، واجعلنا لك شكارين، لك ذكارين إليك أواهين منيبين.
------------------------------------------------
هيئة الشام الإسلامية