سلسلة رسائل رواء
الرسالة الثالثة
لا يُسلِمُه ولا يخذُله
في مُعترك الخَطب الشَّديد، والنَّازلة العظيمة؛ المتمثِّلَة في الحرب على أهلنا في غزَّة، لا بدَّ مِن التَّذكير بحقيقةٍ ثابتةٍ في الدِّين، واضحةٍ كالشَّمس في رابعة النهار، ألا وهي وجوب التَّناصر بين المسلمين ونُصرة المستضعَفين، وتعظُم أهمِّيَّة التَّذكير بهذا الثابت خوفًا مِن اهتزازه عند البعض، تأثُّرًا بالخلافات التي تدور حول ما يجري، وخاصَّةً الخلاف مع أصحاب القرار في غزَّة في بعض اختياراتهم، فيجعله يفتُر عن نُصرة أهل غزَّة، أو يتخلَّى عنهم في محنتهم.
فانطلاقًا مِن: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، أوجب الله على المؤمنين نصرة بعضهم بعضًا، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71]، «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ»[1]، وَ«لَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ»[2]، وإنَّ أظهَرَ صور النُّصرة: نُصرتهم على عدوِّهم الذي يحتلُّ أرضهم، ويستحلُّ دماءهم، وينتهك حُرماتهم، ويروِّع شيوخهم ونساءهم وأطفالهم، «ما مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ»[3].
لقد عاتب الله أقوامًا آمنوا لكنَّهم بقوا بين ظهراني المشركين، ولم يهاجروا إلى جماعة المسلمين، حتَّى إنَّه منع التَّوارث بينهم وبين المهاجرين (وذلك قبل أن تنزل آيات المواريث)، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ [الأنفال: 72]، ومع ذلك فقد أوجب نُصرتهم إذا استنصروا إخوانهم: ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ [الأنفال: 72]، فلم يُسقط واجب النُّصرة بسبب معصيتهم في ترك الهجرة ومفارقة المشركين.
وفي حادثةٍ أُخرى تظهر معيَّة الله لعباده المظلومين؛ وإن تلبَّسوا بخطأ أو سوء تقدير اجتهادًا منهم، فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدَالله بن جحش وبعض أصحابه إلى مكَّة لترصد قافلةً للمشركين، فمرَّت بهم عِير قريش، فتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يومٍ مِن رجب، فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلنَّ الحرم، فليمتنعنَّ منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنَّهم في الشَّهر الحرام، فتردَّد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثمَّ شجَّعوا أنفسهم عليهم، فقتلوا رجلاً منهم وأسروا اثنين، وأقبل عبدالله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتَّى قدموا على رسول الله rالمدينة، فلمَّا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أمرتكم بقتالٍ في الشَّهر الحرام»، فوقف العِير والأسيرين، وأبى أن يأخذ مِن ذلك شيئًا، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسقط في أيدي القوم، وظنُّوا أنهم قد هلكوا، وعنَّفهم إخوانهم مِن المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحلَّ محمَّدٌ وأصحابه الشَّهر الحرام، وسفكوا فيه الدَّم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرِّجال، فلمَّا أكثر النَّاس في ذلك أنزل الله عزّ وجلّ على رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: 217][4]، أي: إن كنتم قتلتم في الشَّهر الحرام فقد صدُّوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله مِن قتل مَن قتلتم منهم، ففرَّج الله عن المسلمين ما كانوا فيه.
فانظر كيف انتصر الله لأصحاب نبيِّه على ما كان منهم، لما كان عدوُّهم أبغى وأظلم.
فالمبادرة إلى نُصرة المؤمنين ثابتةٌ بأصل الإيمان، ولا تسقط بالخلاف معهم، بل لا تسقط بالخطأ ولا بالمعصية، فضلاً عن إجارة مَن استجار واستنصر إخوانه في الدِّين بموجب الأخوَّة الإيمانيَّة.
بل إنَّ نُصرة المظلوم -وإن بدر منه ما يؤاخذ عليه- مركوزٌ في فِطرة أصحاب النَّخوة والشَّهامة والفِطرة السَّويَّة، فقد قصَّ الله علينا ما كان مِن موسى عليه السَّلام -قبل بعثته- مِن نصرته الإسرائيليَّ على القبطيِّ في المرَّة الأُولى، وعودته لنصرته له لمَّا استجار به في المرَّة الثَّانية، على الرَّغم مِن استيائه منه لكثرة غوايته، ﴿فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا﴾ [القصص: 18-19]، فلم يتخلَّ عن نُصرته برغم إنكاره عليه استعداءه القبطيَّ عليه، نصرةً له ممَّن كان يظلمه ويسومه سوء العذاب.
ومِن روائع السُّنَّة أن كرَّم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حِلفًا كان في الجاهلية، عنوانه: نُصرة المظلوم، ومبدؤه رفع الجَور والظُّلم عن الجميع؛ دُون النَّظر إلى أصله وقبيلته، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى إجابته وقبوله لمثل هذا الحلف فيما لو دُعي إليه في الإسلام: «لقد شهدتُ مع عمومتي حِلفًا في دار عبد الله بن جدعان، ما أحبُّ أن لي به حُمر النَّعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت»[5]، هذا هديُه rفي الجاهليَّة، فكيف يكون الحال إن كان هؤلاء المظلومون مِن المؤمنين الذين تجمعهم مع إخوانهم رابطة الدِّين وغيرها!
إنَّ خطورة خذلان المؤمنين المستضعفين وترك نصرتهم لا تكمُن في نيل العدوِّ منهم فحسب، بل تُنذر بوقوع الذُّلِّ في الدُّنيا على سائر الأمَّة، لقول الله تعالى: ﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: 73]، وفي الآخرة على أعيان الأمَّة المتخاذلين، لحديث سهل بن حنيفٍ رضي الله عنه: «مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ، فَلَمْ يَنْصُرْهُ وَهُوَ يقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ، أَذَلَّهُ اللهُ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[6].
واليوم، في خِضمِّ أحداث غزَّة الدَّامية، برزت على السَّطح مناقشاتٌ كثيرةٌ، مِن قبيل:
فأيًّا كان موقفك أخي المسلم مِن هذه المناقشات،فإنَّ ممَّا لا ينبغي الخلاف فيه أنَّ النُّصرة حقٌّ واجبٌ، وليس للمؤمنين مِن خيارٍ إلَّا التَّناصر فيما بينهم، كلٌّ حسب استطاعته ووُسعه، خاصَّةً عندما تتداعى علينا الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وتُداس كلُّ قِيمةٍ إنسانيَّةٍ، وينفلت العدوُّ ليرتكب أفظع الجرائم دُون وجود زمامٍ له ولا خطامٍ، ويقف العالم بأجمعه بين متفرِّجٍ ومبرِّرٍ ومساندٍ لهذه الجرائم.
إنَّ الاحتجاج بالخلاف والمخالفة على ترك النُّصرة هو مِن فعل المنافقين، ففي غزوة أحد انْخَذلَ عبدُاللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابن سَلُولَ بِثُلُثِ النَّاسِ، وَقَالَ:أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي! مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا؟ هَا هُنَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَرَجَعَ بِمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ[7]، ثمَّ شمتوا بهم بعد ذلك وقالوا: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ [آل عمران: 168]، وما كان فِعلهم إلَّا خليطًا مِن الأعذار الواهية، التي تكشف خُبث نواياهم ابتداءً، واستهانتهم بمستقبل الإسلام.
وها هنا إشاراتٌ ينبغي ألا تغيب عنَّا:
وأخيرًا، اعلم أخي المسلم أنَّك بنُصرتك لإخوانك إنَّما تنجي نفسك، وليس في ذلك مِنَّةٌ على أحدٍ، ﴿وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ﴾ [محمد: 38]، ولعلَّ مِن حكمة الله تعالى أن جعل في هذه النَّازلة تمحيصًا وتنقيةً للصَّفِّ المسلم، ليميز الخبيث مِن الطَّيِّب، وليعلم المؤمنون أنَّ هذه الدَّعوة المباركة لا تنتصر إلَّا على أيدي المؤمنين الصَّادقين.
------------------------------------
هيئة الشام الإسلامية
الجمعة 7 جمادى الأولى 1446 هـ
الموافق 8 نوفمبر 2024م