سلسلة رسائل رواء
الرسالة الخامسة
"الدِّين النَّصيحة"
فرح السوريون -ومِن ورائهم أمة الإسلام- بتحرير سوريا من الظلمة والمفسدين، ويُنسب هذا الفضل -بعد الله تعالى- إلى كل من ضحى بجهده وجهاده وفكره وصبره وعطائه، وفي مقدمة هؤلاء: الطليعة التي استطاعت أن تستثمر التضحيات، وتوظف الطاقات، بخطط محكمة، وعمل دؤوب، وبسالة وجسارة، فكتب الله أجرهم وجزاهم عنا خيرًا كثيرًا، و(لا يشكر الله من لا يشكر الناس).
وتولت الإدارة الجديدة إدارة شؤون الدولة وتصريف أمورها، ومن فضل الله علينا أنَّ من يعتد برأيه من السوريين أجمعوا ألا يتنازعوا في الأمر، حرصًا على وحدة الصف أمام الأخطار المهددة للاستقرار من الداخل والخارج.
وتحت سقف هذا الإجماع، كان من الطبيعي أن تتخذ الإدارة إجراءات لا يتفق الجميع معها، فظهرت بين الناس مواقف متباينة، يعنينا منها موقفان:
1- موقف المعتذر لكل ما يصدر عن الإدارة.
2- موقف الناصح الأمين الحريص على رفع كفاءتها وتكميل ما يراه نقصًا.
ولنا مع الموقفين ثلاث وقفات:
الوقفة الأولى:
كلا الفريقين ينطلق في موقفه من الخوف على مكاسب الثورة، ومستقبل البلد. أحدهما يرى أن الأصوب في ذلك ألا تنتقد الإدارة مطلقًا، وأن يسلّم لها بكل ما تفعل، ومن كان له نصيحة فليسرّ بها إلى المسؤولين، ويخشون أن يُستغل هذا النقد من جهات لا تريد للبلد خيرًا. بينما يرى الفريق الآخر أن النصح والنقد –حين يُمارس بحكمة ومسؤولية– هو الذي يحافظ على المكتسبات. والخلاف بين الفريقين خلاف سائغ، ينبغي أن تتسع له الصدور؛ فلا يوصف المعتذرون بالمطبِّلين، ولا يوصف الناصحون بالمحرضين، وليس أحدُ الفريقين بأحرَصَ على المصلحة العامة من الآخر.
الوقفة الثانية:
النصح للمسؤول والاحتساب عليه من سمات هذا الدين ومن مفاخره، وبه تتحقق مقاصد الشريعة بإصلاح الدين والدنيا. (الدين النصيحة، لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).
والنصح واجبٌ شرعيٌّ ومسؤولية كلِّ فردٍ بحسبه، به ينهض المجتمع وتسير سفينته إلى بر الأمان، وهو نجاة للناصح والمنصوح "نجوا ونجوا جميعًا".
ومبعث النصح إرادة الخير للمنصوح، وليس إظهارًا لعيبه ولا انتقاصًا من شأنه. والنصرة من النصح، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (انْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أو مظلومًا). فقال رجلٌ: يا رسول الله، أنصُرُهُ إذا كان مظلومًا، أفرأيتَ إذا كان ظالِمًا، كيفَ أنصُرُهُ؟ قال: (تَحْجُزُهُ -أو تَمْنَعُهُ- مِنَ الظلمِ؛ فإنَّ ذلكَ نَصْرُهُ). فتأمل كيف كان حجزُ الظالم عن ظلمه نصرًا له، وليس إساءة إليه.
وفي الاحتساب على المسؤول، عدا عن تقويم الاعوجاج وتصويب الخطأ، تنبيهه ليبقى متيقظًا ويحسب لكل فعل حسابه إذا علم أن هناك من يحتسب عليه. كما أن الاحتساب على المسؤول قد يدفعه إلى توضيح موقفه، فقد يكون ثمة أمر غائب عن المحتسب، وبالتوضيح يزول الإشكال.
الوقفة الثالثة:
هل يكون النصح والاحتساب في السر أم في العلن؟
يكون في السر ويكون في العلن؛ أما نصح الإنسان في عيوبه الشخصية اللازمة له فالأصل أن تكون في السر؛ إذ لا مصلحة في إعلانها غالبًا، وأما ما كان من الشأن العام المعلن فإن النصح فيه يكون معلنًا، وفي ذلك مصالح عدة:
أ- نشر ثقافة الاحتساب والنصح في المجتمع، وأن مناصحة المسؤولين علنًا والاحتساب عليهم أمر مشروع.
ب- تسكين ثائرة "المظلومين" والمتأذِّين من الإجراء العام، إذا علموا أن هناك من يتكلم بلسانهم، ويعبر عما في صدورهم، وكيف سيعلمون بمثل هذا لو بقي الأمر سرًا؟ والتفت إلى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾. ولو لم يعلم أن له سلطانًا يأخذ له حقه لتفاقم الأمر لديه.
ج- لكل مسؤول بطانة ووزراء ومستشارون وموظفون كبار، يشاركونه في حكمه، ويؤثرون في قراره، وهؤلاء مقصودون بالنصح والاحتساب مثله تمامًا، فالمقصود وصول الرسالة لهم جميعًا.
د- النصيحة في العلن أجدر بأن تؤخذ بجدية واهتمام.
هـ- ليس كل أحد قادرًا أن يصل إلى المسؤول بسهولة، ولو اشترطنا أن يكون الأمر بين الناصح وبينه سرًا لفات كثير من النصح.
و- ترحيب المسؤول بالنصح العلني وتقبله له بقبول حسن يزيد في مصداقيته واحترام الناس له وثقتهم في نزاهته.
ز- إن جاء العلن ممن وقع عليه الضرر، فإنَّ الله قد أذن له بذلك: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾، وجاءَ رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يَشكو جارَهُ، فقال: (اذهَب فاصبِر) فأتاهُ مرَّتينِ أو ثلاثًا، فقال: (اذهَب فاطرَحْ متاعَكَ في الطَّريقِ) فطرحَ متاعَهُ في الطريقِ، فجعلَ الناسُ يَسألونَهُ فيُخبِرُهُم خبرَهُ، فجَعلَ الناسُ يلعنونَهُ: فعلَ اللهُ بِهِ، وفَعلَ، فجاءَ إليهِ جارُهُ فقال له: ارجِع لا تَرى منِّي شيئًا تَكْرَهُهُ. فلم يمتنع الجار عن أذى جاره إلا بعد أن ظهر الأمر للناس.
والشواهد على الاحتساب علانية على من ولي شيئًا من أمر المسلمين مشهورة معلومة، فلا نطيل الرسالة بذكرها.
وعلى المحتسب ألا يتكلم إلا بعلم، وأن يتوخى الحكمة والعدل، وأن يتلطف في خطابه ليكون أدعى للقبول، وأن يكون دافعه ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾ لا يريد حظَّ نفسه ولا شهرتها، وألا ييأسَ من تكرار النصح، وأن يتجنَّب نفَس "هلك الناسُ" فيُهلِكَهم، وأن يتفاءل لأثر احتسابه ولا يتشاءم؛ فالبلاء موكل بالمنطق.
اللهم ولِّ علينا خيارنا، وخذ بأيديهم إلى كل خير، وهيئ لهم البطانة الصالحة، واجعلنا نصَحَةً وعونًا لهم بما يرضيك عنا وعنهم.
------------------------------------------------
هيئة الشام الإسلامية