هل تثبت الوفاةُ بشهادةِ رجلٍ واحدٍ؟
السؤال:
زوجي معتقلٌ منذ خمسِ سنوات، وقد وصلَنا خبرُ وفاتِه مِن شخصٍ كان معتقلًا معه، وأكّد أنه شاهده ميتًا، وحلف يمينًا على ذلك، والآن يوجدُ رجلٌ تقدّم لخِطبتي، فهل يحلُّ لي الزواجُ منه، وهل يكفي هذا للحكم بوفاتِه أو لا بدّ مِن شاهدَين للحُكم بوفاته أو يلزمنا الرجوع إلى القاضي للحكم بذلك؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وبعد:
أولًا: إثباتُ الوفاة له جانبان:
الأول: شخصيٌّ يتعلق بزوجة المتوفَّى وأقاربِه.
فهؤلاء تثبتُ عندهم الوفاةُ بأحدِ أمرين: المشاهدة والمعاينة إنْ كان حاضرًا موجودًا بينهم، أو خبر الواحد الثِّقة إن كان غائبًا وبعيدًا عنهم.
ولم يزل أمرُ النَّاسِ على هذا في كافّةِ الأعصارِ والأمصارِ، يحكمون بوفاة قريبِهم بناءً على خبرِ الثقاتِ أو خبرِ الواحدِ العدلِ الموثوقِ بصدقِه وأمانتِه، وتعتدُّ زوجتُه ويُقسَم ميراثُه...إلى آخر الأحكامِ المتعلقةِ بوَفاتِه.
قال الكاساني في "بدائع الصنائع": "وخبرُ العَدْلِ في باب الدِّيانةِ مقبولٌ، رجلًا كان أو امرأة".
وهذا ما ذكره السرخسيُّ في "المبسوط" إذا كان الـمُخبِرُ ثقةً موثوقًا به؛ "لأنّ أمرَ الناسِ هكذا يكون"، وقال في "شرح السِّيَرِ الكبير": "موتُ الزوجِ يَثبتُ عندها بخبرِ الواحدِ إذا كان عدلاً".
وكذا قال ابنُ الهُمام في "فتح القدير": " العادةُ أنّ عِلمَ هذه الأشياءِ غالبًا لا يَحصُلُ إلا لبعضِ أفرادٍ، وأنَّ الناسَ يعتمدون فيه على الخبرِ".
وقال أيضًا: "إذا أخبرها واحدٌ عدلٌ، أو شهد عندَ وليِّها بأنّ زوجَها طلّقها أو مات عنها، ووقع في قلبِها صِدْقُه: لها أنْ تعتدَّ وتتزوّج".
وفي "الفتاوى الهندية": "إذا غاب الرَّجلُ عن امرأتِه، فأتاها مسلمٌ عدلٌ فأخبرها أنَّ زوجَها طلَّقها ثلاثًا أو مات عنها: فلها أنْ تعتدَّ وتتزوَّج بزوجٍ آخر".
وفي "البيان والتّحصيل" مِن كتب المالكية: " وسُئل عن المرأةِ تأتيها وفاةُ زوجها، وزوجُها غائبٌ، أترى أنْ تُشهِد على ذلك؟ فقال: لِمَ؟ أفي شكٍ هي؟ فقال: لا، قال: ما أَرى ذلك عليها إذا كانت على ثبْتٍ مِن أمرِها، إلا أنْ تكون على شكٍّ.
قال محمد بن رشد: قوله: (أترى أن تُشهِد على ذلك؟) معناه أترى أن تَطْلُبَ الشهادةَ على صحّةِ الخبرِ بذلك؟ فلم يرَ ذلك عليها، إذا لم تَشُكَّ في صحتِه، وهو كما قال".
وقال أبو المحاسن الرُّوياني الشافعي في كتابه "بحر المذهب": "متى عَلمت الزوجةُ الفرقةَ بطلاقٍ أو موتٍ: فالعِدَّةُ مِن حين وقوعِ الفُرقةِ، سواء كان غائبًا أو حاضرًا، وسواء ثبتَ ذلك بالبيِّنةِ أو بالخَبرِ".
وقال الدَّميريُّ في "النّجم الوهّاج": "ولو أخبر عدلٌ بموتِه: لم يَكْفِ ظاهراً، وقال القفّالُ: يحِلُّ لها أنْ تتزوّجَ فيما بينَها وبين الله تعالى؛ لأنّ ذلك خبرٌ، وليس شهادةً". وقولُه (ظاهرا): أي في حكمِ القضاء.
وقال ابنُ حجر الهيتمي الشافعي في "الفتاوى الفقهية الكبرى": "رأيتُ النوويَّ رحمه الله وغيرَه ذكروا عن القفَّالِ واعتمدوه: أنّ لزوجةِ المفقودِ إذا أخبرها عدلٌ بموتِه أنْ تتزوّجَ فيما بينَها وبين الله تعالى".
الجانب الثاني: قضائيٌّ.
وهذا يُحتاجُ له عندَ وجودِ الخُصومةِ والنِّزاع أو انتزاعِ بعضِ الحقوق، فلا يَحكم القاضي بإثبات الوفاةِ حينئذٍ إلا بقيامِ البيّنةِ الشّرعيةِ، ومنها شهادةُ الشُّهود ِالثقاتِ.
فأحكامُ القَضاءِ يُشترطُ لها شهادةُ الشهودِ وقيامُ البيِّناتِ الشرعيةِ، وأمّا أحكامُ الدِّيانةِ فتثبت بخبرِ الواحدِ الثقةِ وما يقوم مقامَه مِن الدّلائل دونَ حاجةٍ لحُكمِ القاضي.
سُئل ابنُ حجر الهيتمي رحمه الله تعالى -كما في "الفتاوى الفقهية الكُبرى"- عن إخبارِ الرَّجلِ بطلاقِ فلانٍ أو موتِه أو توكيلِه هل يُقبَلُ أو لا بدَّ مِن شاهدَين؟ وهل يُقبَلُ الكتابُ المجرَّدُ عن الشهادةِ إذا عُرف أنّه خطُّ الـمُرسِل أم لا؟ وهل يُكتفى في غير القاضي بذلك أو لا؟
فأجاب بقوله: "يجوز لِـمَن أخبره عدلٌ بذلك أنْ يعملَ به بالنِّسبةِ لما يتعلَّق بنفسِه، فقد قالوا: لو أخبر عدلٌ امرأةً بموتِ زوجِها أو طلاقِه: جاز لها أنْ تتزوّجَ فيما بينها وبين اللهِ سبحانه وتعالى، وكذا خطُّه الموثوقُ به إذا حفَّته قرائنُ بأنَّه قَصَدَ مدلولَ تلك الكتابةِ؛ لأنَّ المدارَ على ما يُغلّبُ ظنَّ صدقِ الأمارةِ.
وأمّا بالنِّسبةِ لحقِّ الغيرِ أو لما يتعلَّقُ بالحاكم: فلا يجوز اعتمادُ عدلٍ، ولا خطٍ، ولا غيرِهما مِن كلِّ ما ليس بحجّةٍ شرعية".
وبه يتبيّنُ أنّ الذي عليه عامّةُ الفقهاءِ أنّ إثباتَ الوفاةِ لا يحتاج لشهادةِ الشُّهودِ (=قيامِ البيِّنةِ الشّرعيةِ) ولا قضاءِ القاضي، وإنما يُكتفَى فيه بخبرِ الواحدِ الثقةِ أو ما قام مَقامَه مِن دلائلَ وقرائنَ، وأنَّ الشّهادةَ والبيِّنةَ إنما تُطلَبُ في مجالسِ القَضاءِ والحُكمِ، وما نحن فيه مِن بابِ "الإخبارِ" لا مِن بابِ "الشّهادة".
وكذا ذكر الحنابلةُ -كما في "المسائل الفقهية" لأبي يعلى و"الهداية على مذهب الإمام أحمد"- أنّ إثباتَ الوفاةِ قد يكون بالبيّنةِ أو بالخبرِ.
وما وقع في كلامِ بعضِ الفقهاءِ مِن اشتراطِ العلمِ والقطعِ بوفاتِه، فمرادُهم به -كما ذكر الدَّميري-: "الطَّرفُ الراجحُ لا القطع".
وقال ابنُ نُجيم في "الأشباه والنظائر": "وغالبُ الظّنِّ عندَهم مُلحَقٌ باليقينِ، وهو الذي تُبتنى عليه الأحكامُ، يَعرف ذلك مَن تصفَّح كلامَهم في الأبوابِ".
ولو كان مرادَهم اليقينُ والقطعُ لما كفى في ذلك شهادةُ شاهدَين ولا ثلاثةٍ.
ثانيًا:
إذا ثبتتْ وفاةُ الإنسانِ إمّا بمشاهدةٍ ومعاينةٍ، أو خبرِ الثقةِ، أو الدّلائل الأخرى التي تفيدُ ذلك: عُمل بمقتضى الدّليلِ دونَ حاجةٍ لحُكمِ القاضي، فليس مِن مَهامِّ القاضي استصدارُ شهاداتِ وفاةٍ لمن ثبتتْ وفاتُهم!
ولم يقلْ أحدٌ مِن العلماءِ إنَّ الشخصَ إذا غاب أو فُقد وقامت البيّنةُ أو الدّلائلُ على وفاتِه: فلا بدّ مِن حُكمِ القاضي بوفاتِه، بل يُعمل بالبيِّنةِ بمجرّدِ ثبوتِها.
قال البهوتي في "شرح منتهى الإرادات": "ولا تفتقرُ امرأةُ المفقودِ في ذلك التربُّص إلى حُكمِ حاكمٍ بضرب المدّةِ وعِدَّةِ الوفاة؛ لأنها فُرقةٌ تعقُبُها عِدّةُ الوفاةِ، فلا تتوقّفُ على ذلك كقيامِ البيِّنةِ بموتِه".
وإنما يُلجأ للقاضي في هذا الباب: عند غيابِ البيّنةِ والدّليلِ، ليَضربَ لهم مدةً ينتظرونه فيها، فإنْ لم يرجِعْ: حَكَم بوفاتِه.
ينظر:
وفي الختام: ننبّه ونؤكّدُ على أمرين:
أوّلُهما: أنّ العملَ بالخبر في الوفاة إنّما يكون إذا كان المخبِرُ ثقةً معروفًا بالصّدقِ مأمونًا فيما ينقل كما سبق في كلام أهل العلم، ولا يُكتفَى بخبرِ شخصٍ غير معروف، ولو ذكر أنه كان معه في السجن، ولا يُكتفى أيضًا باتصالٍ مِن مصدرٍ مجهولٍ أو جهةٍ غير موثوقةٍ.
الثاني: أنّنا ننصحُ في مثلِ هذه الأحوالِ التي يحصلُ فيها الشكُّ والتردّدُ إذا أرادت الزّوجةُ أنْ تتزوّجَ أنْ تتقدّمَ إلى جهةٍ قضائيةٍ لطلبِ التّفريقِ للضَّررِ أو تعذُّرِ النَّفقةِ مِن جهةِ الزَّوجِ، فذلك هو الأسلمُ والأحوطُ في حقّها؛ فإنه إذا فرّق القاضي بينها وبين زوجِها فإنّه لا يؤثّر على زواجِها الثاني إذا ظهر بعد ذلك عدمُ صحّةِ الخبر بوفاةِ زوجِها الأولِ.
وينظر:
تزوَّجَتْ بعد اعتقال زوجها لظنِّها وفاته، ثم خرج مِن السجن حيًّا، فما الحكم؟
والله أعلم.