الأحد 29 جمادى الأول 1446 هـ الموافق 1 ديسمبر 2024 م
أحكامُ الجوائز في المسابقات الرياضية والثقافية
رقم الفتوى : 352
الخميس 15 صفر 1445 هـ الموافق 31 أغسطس 2023 م
عدد الزيارات : 16843

أحكامُ الجوائز في المسابقات الرياضية والثقافية

السؤال:

هل يجوز بذل الجوائز وأخذها في المسابقات الرياضية والثقافية؟
 

الجواب:

الحمد لله، والصلاةُ والسلام على رسولِ الله، وبعد:

فإقامة المسابقات الرياضية والثقافية والتشجيع عليها: من الأمور المباحة، وأمَّا دفع الجوائز المالية وأخذها، فلها حالات فيما يلي بيانها:

أولاً:

ينبغي التفريقُ عند النَّظرِ في هذه المسائل بين أمورٍ ثلاثةٍ تتشابه أو تتداخل، وهي: (القِمار، والسَّبْق، والجَعالة).

فالقِمارُ: منافسةٌ ومغالبةٌ بين طرفين أو أكثر، يدفع كلُّ داخلٍ في هذه المنافسة مبلغًا مِن المال، يفوز به أحدُهم، ويخسر الباقون أموالَهم.

فالداخلُ في هذه المنافسة إمَّا غارمٌ وإمّا غانمٌ، وما يربحه أحدُهم هو عينُ ما خسره الآخرون.

والسَّبْقُ: أنْ يتسابق شخصان أو فريقان على الأقدام أو الدَّواب أو بالسِّهام، ونحو ذلك، على مالٍ يحوزه الفائزُ منهما، وهذا المال يُقال له: "السَّبَق" بفتح الباء.

وصورتُه المباحةُ: أن يكون المالُ مِن طرَفٍ أجنبيٍّ، أو مِن أحد الطرفين دون الأخر كأنْ يقول له: أتسابق معك، فإنْ سبقْتَني فلك عليَّ دينارٌ، وإنْ سبقتُك فلا شيء عليك.

وصورتُه المحرَّمةُ: أنْ يكونَ المالُ مِن المتسابقين جميعًا، فهو "رِهانٌ" و"قِمارٌ" عند جمهور العلماء.

وأمّا الجعالةُ: فهي بذلُ طرَفٍ خارجيٍّ مالًا لـمَن يقوم بعملٍ معيَّن أو يحقِّقُ منفعةً معيّنةً، ولا يدفع المتنافسون شيئًا مِن المال.

وهي مِن العقودِ المباحة.

وسواء في ذلك أكانت هذه المنفعة تخصُّ باذلَ المال أو غيرَه أو فيها نفعٌ عامٌّ، فالقَصدُ أنْ يكون مِن ورائها غرَضٌ صحيحٌ ومنفعةٌ مقصودةٌ.

ثانيا:

المسابقةُ في الألعاب الرياضية دون مالٍ: جائزةٌ في كلِّ شيءٍ مباحٍ.

قال ابنُ قدامة في "المغني": "فأمّا المسابقةُ بغير عِوضٍ، فتجوز مُطلقًا مِن غير تقييدٍ بشيءٍ معيَّنٍ، كالمسابقة على الأقدام، والسُّفن، والطُّيور، والبِغال، والحمير، والفِيَلة، والمزاريق، وتجوز المصارعة، ورفع الحجر، ليُعرَفَ الأشدُّ، وغير هذا".

والمزاريقُ جمعُ مِزراقٍ، وهو: الرُّمحُ القصير.

وأمّا مع بذلِ المالِ، فللعلماءِ أقوالٌ مختلفة فيما يجوز بذلُ الجوائزِ (=العِوَضِ) فيه مِن المسابقات، ما بين مُضيِّقٍ وموسِّعٍ:

1- فجمهورُ العلماء على منعِ بذلِ المال في شيءٍ مِن المسابقات إلا مسابقات الخيل والإبل والرَّمي بالسِّهام، لا فرق في ذلك بين كون المال المبذول مِن المتسابقَين أو أحدهما أو طرَفٍ ثالث.

وعمدتُهم في هذا حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: (لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ، أَوْ حَافِرٍ، أَوْ نَصْلٍ) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة.

والسبَق بفتح الباء: ما يُجعل منِ المال رهناً على المسابقة، والخُفُّ: الإبل، والحافرُ: الخيل، والنَّصْلُ: السَّهم.

وقالوا: لا يحل ُّأخذُ المالِ بالمسابقة إلا في هذه الثلاثة، "واختصت هذه الثلاثة بتجويز العوَضِ فيها؛ لأنها مِن آلات الحرب المأمور بتعلُّمِها وإحكامِها، والتّفوُّقِ فيها، وفي المسابقة بها مع العوَضِ مبالغةٌ في الاجتهاد في النِّهاية لها، والإحكامِ لها، وقد ورد الشرعُ بالأمرِ بها، والترغيبِ في فعلها". انتهى من "المغني" لابن قدامة.

2-بينما نظر الشافعية للمعنى المقصود من هذه الثلاثة، وهو التمرُّس والتدرُّب على الجهاد، فقاسوا عليها كلَّ الألعابِ التي تُعين في التدرُّبِ على القتال والجهاد، ينظر: "روضة الطالبين".

أما ما لا يستعانُ به في الحروب، كاللَّعب بكرة القدم، والملاكمة، والمصارعة، فلا يجوز بذلُ الجوائزِ فيه مُطلقًا، لا فرق في ذلك بين أنْ تكون الجائزةُ مبذولةُ مِن الطرفين أو أحدِهما أو طرَفٍ ثالث، إلا أنها إذا كانت مِن الطرفين كانت أشد لدخولها في باب القمار، وهو ما رجّحه شيخُ الإسلام ابنُ تيمية وتلميذه ابنُ القيم.

3- وذهب عطاء بن أبي رباح، ونسبه ابن القيم لبعض الحنفية: إلى جواز بذل السَّبَق (المال والجوائز) في كلِّ مباحٍ مِن الألعابِ، قال عطاء: "السَّبَق في كلِّ شيء". ينظر: الأوسط لابن المنذر، وفتح الباري لابن حجر.

واختار هذا القولَ جمعٌ كثيرٌ مِن الباحثين المعاصرين، وهو اختيار مجمع الفقه الإسلامي؛ إذ لم يقيِّدوا الجوازَ بكونِ الألعاب مما يُستعان بها على القتال والجهاد، بل يكفي: أنْ تحقّقَ مقصدًا مِن المقاصد المعتبرة شرعًا، وألا يكون العوضُ (الجائزة) فيها مِن جميع المتسابقِين.

وكذا اعتمدت هيئةُ المعايير الشرعية (أيوفي) جوازَ بذلِ المال في كلِّ مسابقةٍ مباحةٍ بشرط كونِ المال مِن أحد المتسابقين دون الآخر، أو مِن طرَفٍ ثالث.

 

وأمّا حديثُ (لا سبَق...) فيُجاب عنه مِن وجهين:

 

الأول: أنّ الحديثَ مع شهرته لا تخلو أسانيدُه مِن مقال.

الثاني: ليس المرادُ مِن الحديث حصر بذلِ الجوائز في هذه الثلاث، بل المقصودُ أنّ هذه الثلاثَ أحقُّ ما تُدفع وتبذل فيه الأموالُ والجوائز، فقوله: (لا سبَق) يريد به: لا سبَقَ كاملًا ونافعًا ونحوه.

والحاصل: أنَّ الصُّورةَ المتفقَ على تحريمِها هي بذلُ المال مِن كلِّ المتسابقين في الألعاب التي لا تُعين على الاستعداد للجهاد، والصُّورة المتفقُ على إباحتِها هي بذل المال مِن أحدِ المتسابقين أو طرَفٍ أجنبي في سباق الخيل والإبل والرمي بالسِّهام.

وما عدا ذلك محلُّ خلافٍ ونزاعٍ بين العلماء.

وكما هو ظاهر، فهذه المسألةُ مِن مسائل الاجتهاد والخلاف السائغ بين العلماء التي يصعب فيها القطعُ بترجيحِ أحدِ الأقوال والجزمُ بتخطئةِ غيرِه، وخاصةً مع عدمِ وجودِ نصٍّ شرعيٍّ قاطعٍ حاسمٍ.

ولذا فالاحتياطُ والورعُ: اجتنابُ بذلِ المالِ وأخذِه في المسابقات التي لا تُعين على الجهاد والقتال، سواء مِن أحدِ الطرفين أو طرَفٍ أجنبي.

ومَن ترخّص بقولِ مَن يجيز بذلَ المال في كلِّ ما كان مباحًا ونافعًا مِن الألعاب، أو قلَّد مَن يقول بذلك مِن أهل العلم: فلا حرجَ عليه إن شاء الله تعالى، وليُحسنْ نيّتَه في ذلك، ويقتصدْ في هذا الأمرِ ولا يتوسعْ فيه.

ثالثاً:

أمّا المغالباتُ في مسائل العلم والفقه، والتي تكون على مالٍ يدفعه أحدُ الطرفين أو كلاهما، فهي محرَّمةٌ عند جمهورِ العلماء، لدخولها في حديث (لا سبق ..).

ورخص بها الحنفيةُ إذا كان المالُ مبذولًا مِن أحدِهما فقط، قياسًا على المغالباتِ المأذون بها شرعاً؛ لأنها نوع مِن الجهاد في سبيل الله.

قال برهان الدين البخاري في "المحيط البرهاني في الفقه النعماني": "كذلك إذا قال واحدٌ مِن المتفقهةِ لمثلِه: تعالَ حتى نُطارحَ المسائلَ، فإذا أصبتَ وأخطأتُ أُعطيك كذا، وإنْ أصبتُ وأخطأتَ، فلا آخذُ منك شيئاً: يجب أن يجوز؛ لأنّ في الأفراس إنما جُوِّز ذلك حثًّا على تعلّمِ الفروسية، فيجوز ههنا أيضًا حثًا على تعلم الفقه؛ لأن َّكلَّ ذلك يرجع إلى تقويةِ الدين وإعلاء كلمةِ الله تعالى، وبه أخذ الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله".

وقال ابنُ عابدين في حاشيته: "وإنّما جاز، لأنّ فيه حثًّا على الجهاد وتعلّمِ العلم؛ فإنّ قيامَ الدينِ بالجهاد والعلمِ، فجاز فيما يرجع إليهما لا غير".

وقال ابنُ القيم في "الفروسية": "وإذا كان الشارعُ قد أباح الرِّهانَ في الرَّمي والمسابقةِ بالخيل والإبل لما في ذلك مِن التّحريضِ على تعلّمِ الفروسيةِ وإعدادِ القوّةِ للجهاد، فجوازُ ذلك في المسابقة والمبادرة إلى العلم والحجّة التي بها تفتح القلوبَ ويعز الإسلام وتظهر أعلامُه أولى وأحرى، وإلى هذا ذهب أصحاب أبي حنيفة وشيخ الإسلام ابن تيمية".

وقال: "فكلُّ مغالبةٍ يُستعان بها على الجهاد تجوز بالعوَضِ بخلاف المغالبات التي لا يُنصَرُ الدينُ بها".

رابعًا:

بذلُ الجوائزِ في الأنشطة العلمية والثقافية.

الجوائزُ التي تبذلها جهةٌ مستقلّةٌ عن المتسابقين لـمَن ينجز عملًا نافعًا ومفيدًا، يدخل فقهًا في باب الجعالة لا في باب المسابقات.

ولذا تجوز في كلِّ عملٍ مباحٍ يحقّقُ نفعًا وغرضًا صحيحًا.

ومِن هذا: الجوائز التي تُبذل لمن يحقّقُ إنجازًا في كافة المجالات الشرعية، أو الأدبية، أو النفسية، أو الاجتماعية، أو العلمية، أو الطبية، أو يبتكرُ شيئًا، أو يكتشف جديدًا، أو يحققُ اختراعًا مفيدًا، وغير ذلك مِن الأشياء التي تعود على المجتمع بالنفع والفائدة.

ومن هذا: ما رواه ابن أبي حاتم الرازي في كتابه "آداب الشافعي ومناقبه" بسنده عن الحُمَيْدِيّ، قال: " كان الشَّافعيُّ رُبَّمَا ألقى عليَّ وعلى ابنه أبي عثمان المسألة، فيقول: أيُّكما أصاب فلهُ دينارٌ ".

وكذا ذكر الدكتور وهبة الزحيلي رحمه الله تعالى في "الفقه الإسلامي وأدلته" أنّ مِن صور الجعالة تقديمَ مكافأةٍ لمن: "ينجح نجاحاً متفوقاً في امتحان، أو يبتكر علاجاً ناجعاً، أو يخترع اختراعاً صناعياً، أو يحفظ القرآن الكريم".

والمسابقاتُ التي يكون فيها باذلُ المالِ طرَفًا خارجيًّا تشبه الجعالة، إلا أنّ الفرقَ بينهما مِن وجهين:

الأول: أنّ المالَ إنْ كان مبذولًا في شيء لا منفعةَ للدافع فيه إلا المغالبة بين طرفين وإظهار الغالبِ منهما: فهو مِن باب السَّبْقِ (=المسابقة)، ولا يجوز إلا فيما يجوز بذلُ السبَق (=جائزة السابق) فيه مِن الألعاب والمغالبات.

وإنْ كان المال مبذولًا لتحقيقِ غرضٍ صحيحٍ: فهي مِن باب الجَعالة، وتجوز في كلِّ أمرٍ مباحٍ.

فما كان المقصودُ منه ابتداءً تحقيقَ "العملِ" المطلوبِ فهو مِن بابِ الجَعالة، وما كان المقصودُ منه إظهارَ "الغالب" فهو مِن باب المسابقة.

والسبْقُ (=المسابقة) مجالُه غالبًا: الألعابُ التي يتنافس فيها الناس، والجَعالة مجالُها: الأعمال النافعة والمفيدة.

قال ابن القيم في كتابه "الفروسية": "الجعالةُ المعهودة عُرفًا وشرعًا: أنْ ينتفع الجاعلُ بالعملِ، والعاملُ بالجُعلِ".

وقال العزُّ بنُ عبد السلام في "قواعد الأحكام": "الجَعالة: وهي بذلُ مالٍ في مقابَلةِ عملٍ مقصودٍ".

وذكر ابنُ قدامة في "الكافي" أنّ "مقصودَ المسابقة: التحريضُ على السَّبْقِ، وتعلّم الفروسية"، وأمّا الجعالةُ فهي "بذلُ العِوضِ في أمرٍ فيه غرَضٌ صحيح".

وكذا ذكر ابنُ تيمية - كما في "المستدرك على مجموع الفتاوى"- أنّ المقصودَ بالمسابقة إظهارُ الأقوى والغالب، "بخلاف الجَعالةِ؛ فإنّ الغرضَ بها العملُ مِن العامل الذي يأخذ الجُعلَ".

الثاني: أنّ العملَ في المسابقة لا بدَّ أنْ يكون معلومًا عِلمًا تامًا ينفي عنه الجهالةَ، بخلاف الجَعالةِ فقد يكون العملُ معلومًا، وقد يكون مجهولاً.

قال ابن القيم في "الفروسية": "الجعالة يجوز أنْ يكون العملُ فيها مجهولًا، كقولِه: مَن ردَّ عبدي الآبقَ فله كذا وكذا، بخلافِ عقدِ السِّباقِ؛ فإنَّ العملَ فيه لا يكون إلا معلومًا".

وخلاصة الفتوى:

1-المغالبةُ بين طرفين فأكثر مع دفعِ كلٍّ منهم مبلغًا مِن المال: قِمارٌ محرمٌ، سواء كان ذلك في الملاهي أو الألعاب أو غيرها مِن المغالبات.

2-المالُ الذي يُبذل مِن أحد المتسابقين أو مِن طرَفٍ خارجي: مباحٌ، بشرط أن يكون ذلك في الألعاب التي تعين في التدرُّبِ على القتالِ والجهادِ، أويكون مِن ورائها منفعةٌ معتبرةٌ شرعًا كما هو قرار مجمع الفقه الإسلامي.

3-الجوائز التي تبذلها جهةٌ مستقلّةٌ عن المتسابقين لمن ينجز عملًا نافعًا ومفيدًا، مباحةٌ، وهي مِن باب الجعالة.

4-لا يجوز بذلُ المالِ في المسابقات التي تكون في أمورٍ تافهةٍ، أو لا نفعَ فيها، ومِن باب أولى ما تضمّن شيئًا مِن المحرمات أو المنكرات.

والله أعلم.