سلسلة رسائل رواء
الرسالة الأولى
وأصلحوا ذات بينكم
مازال أهل العلم والمفكرون والمثقفون تتفاوت أنظارهم تجاه فهم الأحداث، واتخاذ المواقف بناء عليها. ولكل طرف أن يبين قناعاته، ويدلل على صحتها وعلى خطأ أو بطلان الرأي الآخر. إلا أن الحكمة والإنصاف تقتضيان أن يستحضر الكاتب أو المتحدث في القضايا التي يختلف فيها الناس أموراً ثلاثة:
الأول: هل هذا الأمر مما يسوغ تباين الرأي فيه، أم أنه من القطعيات الواضحة في الدين، والبدهيات المسلّمة غير الملتبسة، والتي لا تحتمل وجهات نظر أخرى؟ فإن كان مما يحتمل اختلاف النظر وتتعدد فيه الرؤى والاجتهادات؛ فليتلطف في بيانه وليرفق بإخوانه المخالفين له.
الثاني: سيرة المخالفين، فحَسَن السيرة لا يعامل معاملة سيء السيرة، ومن عرف بصدقه ونزاهته ونصحه لا يخاطب خطاب من اشتهر بالكذب والمراوغة والزيغ.
الثالث: مآلات البيان في مختلف الميادين الدينية والسياسية والاجتماعية، وآثاره على عموم الناس وفيهم العالم والجاهل، والمطلع وغير المطلع، ومن يثبت في مختلف المواقف ومن تأخذه العاطفة وتذهب به الموجة وتجيئ، خاصة في هذا الزمان الذي تنتشر فيه الكلمة في الآفاق بلمح البصر، وتكون متاحة للخاص والعام، والصغير والكبير والصديق والعدو.
وليس المقصود من استحضار هذه الأمور السكوت عن بيان حق يراه، أو معروف يأمر به، أو منكر ينهى عنه، وإنما أن ينتقي عباراته وكلماته خاصة في وصف المخالفين، فلا يظلمهم ولا يسيء إليهم ولا يصفهم بالكلمات الجارحة والألفاظ النابية التي لا يرضاها لنفسه. وهذه الكلمات لا تحق حقا ولا تبطل باطلا، ولا تزيد بيانا وليس لها من عمل إلا التشفي وإيغار الصدور، واستدعاء ردود الفعل بمثلها أو أسوأ، وفتح الباب للشيطان ليحرش بين المؤمنين.
تأمل في قول بعض إخواننا هداهم الله عن مخالفيهم "لا يقول بهذا عاقل" أو "أحتقر من يقول كذا" أو "من قال هذا عليه أن يجدد دينه ويصحح عقيدته" وغيرها من العبارات - التي لا فائدة من حصرها وسردها - وهو يعلم أن ممن يقول بهذا الرأي ثقاتٍ ومخلصين وناصحين، وبينه وبينهم مشتركات كثيرة في الرسالة والغاية ونصرة الحق ومقارعة الظالمين، وعدوهم واحد، وكان بعضهم يحسن الظن بالآخر ويراه رفيقا له في الإصلاح قبل هذا الخلاف. أفبموقف واحد اختلفت معه فيه: فسدت عقيدته، وأصبح غير عاقل، ومحتقراً في رأيه!
رضي الله عن الشافعي وهو يؤدِّب تلميذه المزني فيقول: "يا إبراهيم اكسُ ألفاظك أحسنها".
ونقل الذهبي عن أبي شامة في ترجمة ابن قدامة قوله "كان إماماً علماً في العلم والعمل، صنف كتباً كثيرة، لكن كلامه في العقائد على الطريقة المشهورة عن أهل مذهبه، فسبحان من لم يوضح له الأمر فيها على جلالته في العلم، ومعرفته بمعاني الأخبار".
فعلق الذهبي: "وابن قدامة وأمثاله متعجب منكم مع علمكم وذكائكم، كيف قلتم! وكذا كل فرقة تتعجب من الأخرى، ولا عجب في ذلك، ونرجو لكل من بذل جهده في تطلب الحق أن يُغفر له من هذه الأمة المرحومة".
فتأمل كيف عتب الذهبي على أبي شامة مجرد التعجب من ابن قدامة لِما رأى في الأسلوب من الاستعلاء وادعاء احتكار الفهم الصحيح. فكيف بالشنيع الحاد من الأقوال.
إن هذه الأساليب الحادة النزقة، فوق ما فيها من إيغار الصدور وزيادة الفرقة بين من ينظر لهم أنهم رموز المجتمع ومقدَّميه، تُشمت بهم الأعداء، وتعطي الفرصة للمتربصين بهم ليزيدوهم رهقا، فضلا عن أثر هذه الأساليب في هز صورة القدوة عند الشباب وهم يشهدون هذا التراشق بين من يُكبرونهم ويأخذون عنهم.
وإن مما نخشاه أن يتطور الأمر إلى الإسقاط أو التخوين، فيزهد الناس فيما عند هؤلاء العلماء والمثقفين والمفكرين من علم نافع، وخير عميم، وينزع القبول عنهم جميًعا في الأرض، وأي شر ذلك وبلاء!
لقد أبلى الصحابة في بدر بلاء عظيما، حتى قيل "أهل بدر"، لكن لما تنازعوا في الأنفال كان أول ما نزل من القرآن في بدر معاتبا لهم. يقول عبادة بن الصامت "فينا معشر أهل بدر نزلت، حين اختلفنا في النفل يوم بدر، فانتزعه الله من أيدينا حين ساءت فيه أخلاقنا".
فعلينا جميعا أن نتدارك الأمر، وأن نقول التي هي أحسن. وليلتزم كل منا بهذا ديانة وتعاملا مع الله، وليس على وجه المقابلة، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "لا تَكونوا إمَّعةً، تقولونَ: إن أحسنَ النَّاسُ أحسنَّا، وإن ظلموا ظلَمنا، ولَكن وطِّنوا أنفسَكم، إن أحسنَ النَّاسُ أن تُحسِنوا، وإن أساءوا فلا تظلِموا".
أيها الأفاضل: اختلِفوا وُفق قناعاتكم، ولكن راقبوا الله في لُحمتكم وصفكم، واتقوا الله فيمن يسير على خطاكم ويقتفي آراءكم أين سيصل به المسير!
--------------------------------------
هيئة الشام الإسلامية
الـثلاثاء 5 ربـيع الأول 1446 هـ
الموافق 8 أكتوبر 2024م