الثلاثاء 1 جمادى الآخر 1446 هـ الموافق 3 ديسمبر 2024 م
مشروعية الاستمرار بالقتال في سورية
الجمعة 29 ذو الحجة 1440 هـ الموافق 30 أغسطس 2019 م
عدد الزيارات : 20107

 

مشروعية الاستمرار بالقتال في سورية

 

السؤال:

يستمر النقاش ويقع الالتباس في حكم استمرار الجهاد بالقتال في سورية بعد سيطرة النظام على كثير من المناطق، ووقوع مصالحات في بعض المحافظات السورية ودخول النظام إليها وتهجير الثوار والمجاهدين منها، فهل الجهاد والقتال ما زال مطلوباً؟ وهل هناك فائدة من الاستمرار فيه بعد تلك الأحداث؟ وما التوجيه للمجاهدين في المناطق المحررة التي هُجّروا إليها؟

 

الجواب:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فجهاد الدفع يبقى مشروعاً ما دام الاعتداء واقعاً، أو احتماله قائماً، مع تغير طرق الجهاد، وسبل المدافعة بحسب تغير الأحوال، وبيان ذلك فيما يلي:

 

أولاً: ما زال عدوان النظام المجرم والقوى الأجنبية التي استعان بها على حرب الشعب قائماً، بل ويأخذ ألواناً وأشكالاً جديدة مِن التصعيد واستخدام كافة الأسلحة الفتاكة والمحرمة دولياً، التي تمكّن بسببها مؤخراً مِن تهجير كثير مِن الناس مِن بلدانهم مستعيناً في ذلك ببعض الخونة الذين قادوا مصالحات مذلةٍ للمصالحين.

كما أنّ وجود الثوار والمجاهدين فيما تبقّى مِن المناطق المحررة مهدَّد، والعدوان عليهم واقع بين الفينة والأخرى مما يجعل سعيهم إلى الأمن والاستقرار ملحّاً، والحاجة إلى حمايتهم مستمرة.

 

ثانياً: الأصل أنّ الجهاد بالقتال في سورية قائمٌ ومشروعٌ ما دامت أسبابُهُ ودواعيه قائمةً، قال تعالى: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } البقرة: 190.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومَن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومَن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح

والقاعدة الفقهية: أن الحكم يدور مع علته وجوداَ وعدماً، فما دام النظام المجرم قائماً بحربه على الشعب، مستعيناً على جرائمه بأعداء الشعب السوري مِن روسيا وإيران والميليشيات الطائفية الحاقدة، ساعياً إلى قتل السوريين وتشريدهم مِن أرضهم فهو محقّقٌ لأشد أنواع العدوان التي توجب على المسلمين دفعَ عاديته، وجهادَ عناصره الصائلين المعتدين بأي طريقة لدفع اعتدائهم على الدين والأنفس والأعراض، وذلك بحسب القدرة والطاقة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في"الفتاوى الكبرى": "أما قتالُ الدفع فهو أشدّ أنواع دفع الصائل عن الحُرمة والدين؛ فواجبٌ إجماعًا، فالعدوُّ الصائل الذي يُفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان مِن دفعه، فلا يشترط له شرطٌ، بل يُدفع بحسب الإمكان، وقد نصّ على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم".

وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه الفروسية: "فقتالُ الدفعِ أوسعُ من قتال الطلب وأعمّ وجوباً، ولهذا يتعين على كل أحد ... ويجاهد فيه العبد بإذن سيده وبدون إذنه، والولد بدون إذن أبويه، والغريم بغير إذن غريمه".

وقال ابن عابدين رحمه الله في حاشيته: " وفرْضُ عَينٍ إن هجم العدُوُّ فيخرجُ الكلُّ ولو بلا إذْنٍ ".

بل إنّ تركَ قتال الصائلين فراراً من الفتنة هو السقوط في الفتنة بعينه؛ لأنه بذلك يعظُمُ خطرُهم ويزداد شرُّهم وأذاهم على المسلمين، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39]، وقال سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49].

قال ابن تيمية: "قال الله تعالى: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] (سورة التوبة: من الآية 49). يقول نفس إعراضه عن الجهاد الواجب ونكوله عنه وضعف إيمانه ومرض قلبه الذي زين له ترك الجهاد: فتنة عظيمة قد سقط فيها، فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته؛ والله يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] (سورة الأنفال: من الآية 39) . فمن ترك القتال الذي أمر الله به لئلا تكون فتنة: فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه ومرض فؤاده، وتركه ما أمر الله به من الجهاد."

 

ثالثاً: تغيُّر الأحوال والواقع يوجِبُ اختلافَ شكلِ العملِ الجهاديِّ في مناطق الثوار، وكذلك مناطق المصالحات، حيث لم تبقَ في بعض المناطق تشكيلاتٌ جهاديةٌ منظمةٌ، وإنما أفرادٌ راغبون في مواصلة الجهاد، فيكون تقديرُ التحرُّكِ فيه منوطاً بأهل المنطقة لتقدير المصالح والمفاسد؛ فليس المطلوب في الجهاد مجردَ القتال.

والواجبُ على الثوار الذين بقوا في مناطق المصالحات أن يفتحوا أبواباً أخرى للجهاد، وأهمها جهاد الكلمة لإبطال العقائد والأفكار التي يروجها النظام وحلفاؤه بين الناس في تلك المناطق؛ والعمل على الإعداد المعنوي بالتوجيه والتحريض والإرشاد.

ومما يتوجب كذلك تحشيد الشباب والعمل المستمر على إعدادهم معنوياً ومادياً وتجهيزهم للمعركة القادمة مع النظام المجرم وحلفائه، عند تجددها أو حصولها.

 

رابعاً: عناصر النظام في مناطق المصالحات وغيرها يتنوعون بين تشكيلات ترابط في المواقع العسكرية، وتكون ضمن التشكيلات العسكرية المقاتلة مع النظام، ومَن يقوم بخدمتها والتمكين لها، وبين تشكيلات وظيفتها خدمية في المدن والبلدات، فأما القسم الأول فيجوز استهدافه، وأما الثاني فلا يُستهدف ابتداءً.

وقد قررنا في فتوى (فتوى حكم استهداف المنتسبين للأجهزة الأمنية بمختلف قطاعاتها): أنه "ينبغي التفريق بين مؤسسة يعتمد عليها النظام في إجرامه كالمؤسسة العسكرية والأمنية، وبين مؤسسة للدولة لا يباشر مِن خلالها النظام إجرامه ضد الشعب كوزارات الخدمات مثلاً، أو بعض القطاعات التي ليس من اختصاصها ملاحقة الثائرين أو المجاهدين كعناصر شرطة المرور أو الدفاع المدني أو الجوازات ونحوهم. فهؤلاء يحرم استهدافهم بقتل أو قتال إلا إذا شاركوا في الاعتداء على الناس، ومثلهم موظفو الدولة في سائر الوزارات".

والقائم على مثل هذه الأعمال الخدمية حالُهُ كحال العسيف (=الأجير) الذي نهى صلى الله عليه وسلم عن قتله، كما في حديث رياح بن الربيع رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فرأى الناسَ مجتمعين على شيء، فبعث رجلاً: انظر علام اجتمع هؤلاء؟ فقال: على امرأةٍ قتيلٍ، فقال: ما كانت هذه لتقاتل! قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلاً، فقال: قل لخالد: لا تقتل امرأةً ولا عسيفاً).

وذلك بشرط ألا يعين المجرمين في حربهم، ولو باستشارةٍ أو كلمةٍ. وقال عمر رضي الله عنه: "اتقوا الله في الفلاحين، فلا تقتلوهم إلا أن ينصبوا لكم الحرب" رواه سعيد بن منصور والبيهقي في السنن الكبير.

 

خامساً: قد انحازت كثير من الكتائب والتشكيلات الثورية إلى المناطق المحررة بسبب ما تعرّضت له من ضغوط هائلة، وظروف قاهرة، في عمليات نزوح كبيرة تستدعي الدراسة الواعية المتوازنة وتشخيص الأسباب، ولا ينبغي الاشتغال بإلقاء اللائمة عليهم، وتوجيه أصابع الاتهام بتضييع الثورة وتراجعها التي هي مسؤولية جميع الثوار، بل الواجب البحث عن فريضة الوقت، ومهمة كل ثائر وفصيل وهيئة في الوقت الحالي من الحفاظ على الثورة، وحراسة ما تبقى من المناطق المحررة، وتجديد العزيمة على تحصيل حقوق الشعب...

وإنّ مِن أعظم الواجبات المتحتمة على المجاهدين الذين هُجّروا إلى الأراضي المحررة العمل على تحقيق الاجتماع والائتلاف في تشكيلٍ واحد، ونبذ التفرُّقِ المذمومِ الذي تمثّل بالفصائلية المتناحرة التي كانت من أهم الأسباب في انحسار الثورة، وعودة النظام إلى كثير من المناطق، وعلى القادة أن يدعوا إلى مبادرة تجمع قوى المجاهدين في جيش واحد، ويتعاهدوا على التعاون على البر والتقوى، قال تعالى ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران:103]، وقال أيضاً: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 105].

وقال سبحانه: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال : 46].

ويقول ابن مسعود رضي الله عنه في هذا السياق: "عليكم بالجماعة؛ فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة".

يقول ابن عاشور في تفسيره: "وأما النهي عن التنازع فهو يقتضي الأمر بتحصيل أسباب ذلك: بالتفاهم، والتشاور، ومراجعة بعضهم بعضاً، حتى يصدروا عن رأي واحد.. ولما كان التنازع من شأنه أن ينشأ عن اختلاف الآراء، وهو أمر مرتكز في الفطرة بسط القرآنُ القولَ فيه ببيان سيئ آثاره، فجاء بالتفريع بالفاء في قوله: فتفشلوا وتذهب ريحكم، فحذّرهم أمرين معلوماً سوءُ مغبَّتهما وهما الفشل وذهاب الريح، والفشل: انحطاط القوة"..

ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمع كلمة الثوار والمجاهدين على الخير والهدى، وأن يصلح أحوال الشعب المكلوم، ويرفع عنهم البلاء، ويعجل لهم الفرج..