أحكامُ عيدِ الفطرِ، وزكاتِه
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله مِن شرورِ أنفسِنا ومِن سيّئاتِ أعمالِنا، مَن يهد الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضللْ فلا هاديَ له، ونشهد ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ونشهد أنَّ محمّداً عبدُه ورسولُه، وبعدُ:
فإنَّ عيدَ الفطرِ مناسبةٌ عظيمةٌ، يفرح فيه المسلمون بإتمام نعمةِ الله عليهم بأنْ وفّقهم لصيامِ رمضانَ وقيامِه، وأعانهم عليه؛ فيشكرون اللهَ على ذلك بأداءِ صلاةِ العيدِ، وينصرفون منها بجوائزهم مِن المغفرةِ والرِّضوانِ والأجرِ الكبيرِ، ويُدخلون الفرحَ والسّرورَ على أنفسِهم وأهالِيهم ومجتَمعِهم بذلك.
وإنّ مصابَنا في الشّامِ، والحالَ التي يعيشُها أهلُنا في المناطقِ المحاصرةِ، أو التي يصلُها النّظامُ بعدوانه ونيرانه، أو بلدانِ اللجوء؛ ينبغي ألا يُنسيَنا العيدَ وفرحتَه، فهي فرحةٌ بإتمامِ العبادةِ، قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
وهي فرصةٌ لنُروِّحَ عن النّفسِ بعضَ همومِها، ونواسيَ بعضَنا، ونُدخلَ البسمةَ على وجوهِ أهلينا وأحبابنا وكلِّ مَن حولنا، وهي مناسبةٌ لنعطف بها على مَن هم أشدُّ ضررًا وبؤسًا منّا، ونواسيهم بأموالِنا وأنفسِنا، وليس أجملَ مِن الاجتماع لذلك على عبادةٍ أخرى هي صلاةُ العيدِ، وما فيها مِن تكبيرٍ وذكرٍ لله تعالى، وما يسبقها مِن دفعِ زكاةِ الفطرِ لمستحقّيها.
وفي هذه المطوية بيانُ بعضِ ما يُحتاج إلى معرفتِه مِن أحكامِ عيدِ الفطرِ وزكاتِه.
دخولُ عيدِ الفِطرِ:
يَثبتُ انتهاءُ شهرِ رمضانَ، ويدخلُ عيدُ الفطرِ بأحدِ أمرينِ:
• رؤيةُ هلالِ شهرِ شوّالٍ.
• إكمالُ صيامِ رمضانَ ثلاثين يومًا إنْ لم يُرَ الهلالُ، أو حالَ دون رؤيتِه غيمٌ أو نحوُه؛ لحديث: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ) متفقٌ عليه.
والرّاجحُ أنّ ثبوتَ رؤيةِ هلالِ شوالٍ ودخولِ العيدِ في بلدٍ يعني دخولَ الشّهر في سائرِ البلادِ، ولا سيما تلك القريبة مِن هذا البلد.
ويحصلُ العلمُ برؤية الهلالِ لعامّةِ النّاس مِن خلالِ تتبّعِ الإعلانِ الرسميّ للهيئاتِ الشّرعيةِ.
أمّا أهلُ الشّام المقيمون في بلدانٍ أخرى فيُفطرون مع أهل تلك البلاد، والمرجعُ في تحديدِ نهاية صومِهم ودخولِ العيد: علماءُ تلك البلاد.
وأمّا المقيمون منهم داخلَ سورية في المناطق التي تخضع لسيطرة النّظامِ فيُمكنهم الفطرُ مع عمومِ المسلمين في المناطق المحرّرة والدّول الأخرى، ولا يُثرّبُ على مَن خالف وأفطر اتباعًا للمؤسسة الديّنية الرسمية في سورية؛ دفعًا للمشاحنات والفُرقةِ التي قد تحصل.
فإنْ توافق إعلانُ العيدِ مع المؤسسة الدينية التابعة للنظام: فلا إشكاليةَ في ذلك، ويكون الفطرُ وصلاةُ العيدِ في اليومِ نفسِه.
وإن اختلف التوقيت: فيُفطرون في اليوم الذي ثبت فيه العيدُ بالرّؤيةِ أو الموافقة، ثم إن استطاعوا أداءَ صلاةِ العيدِ منفردِين دون إثارةِ فتنةٍ، أو تعرُّضٍ لأذىً فعليهم أنْ يُقيموها في وقتِها.
وإن تعذّر عليهم ذلك فيجوز لهم تأخيرُ صلاة العيد لليوم التّالي، قال الزيلعي في "تبيين الحقائق": "تؤخّرُ صلاةُ العيدِ إلى الغدِ إذا منعهم مِن أقامتِها عذرٌ ".
حكمُ صلاةِ العيدِ:
صلاةُ العيدِ مِن شعائر الإسلامِ الظّاهرة التي تـجبُ إقامتُها في بلاد المسلمين، وهي سنّةٌ مؤكّدةٌ عند جمهور العلماءِ، ومن أهلِ العلمِ مَن قال: إنّها فرضُ عينٍ على الرّجال والنّساء؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها قالتْ: (أمرنا رسولُ اللهِ أنْ نُخرجهنّ في الفطرِ والأضحى: العَواتقَ، والحُيّضَ، وذواتِ الخُدورِ، فأمّا الحيّضَ فيعتزلن الصّلاةَ، ويشهدنَ الخيرَ، ودعوةَ المسلمين) متّفق عليه.
والمرأةُ العاتقُ: البِكرُ، وذاتُ الخِدرِ: المستترةُ في بيتِها، وقد كان من عادةِ الناسِ أنَّ البِكرَ وغيرَ المتزوّجة لا تخرجُ من بيتها إلا لِحاجةٍ.
فإذا كان النّبيُّ قد أمرَ هؤلاءِ بالخروجِ لصلاة العيدِ حتى مَنْ كان مِنْ عادتها ألا تَخرج مِن بيتِها، وحتّى مَن لا تصحُّ مِنها الصّلاةُ كالمرأةِ الحائضِ: فحضورُها بالنّسبةِ للرّجالِ آكدُ.
أحكامُ صلاةِ العيدِ:
1- يُسَنَّ قبلَ الخروجِ إلى صلاةِ العيدِ أكلُ تمراتٍ وِترًا؛ اتباعًا لسنةِ رسول الله، وإثباتًا للفطر في هذا اليوم؛ لأنه لا يجوز الصّيامُ فيه، فعن أنس بن مالك قال: (كان رسولُ اللهِ لا يَغدو يومَ الفطرِ حتى يأكلَ تمراتٍ) رواه البُخاري، وفي روايةٍ : (ويأكلهنّ وِترًا)، فإنْ لم يجدْ تمراتٍ فعلى أيِّ طعامٍ يجده.
2- يُستحب الخروجُ للصّلاةِ ماشيًا، وأنْ يذهبَ مِن طريقٍ ويعودَ مِن آخر؛ لتكثيرِ الخُطى، وإفشاءِ السّلامِ بين المسلمين، وشهادةِ تلك الطّرقِ له بالخير، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان النّبي إذا كان يومُ عيدٍ خالف الطّريقَ) رواه البخاري.
3- الأصلُ أن تُصلّى صلاةُ العيدِ في المصلّى خارجَ البلدةِ، فإن تعذَّر ذلك أو شقَّ على النّاسِ، أو لم تتوفّر هذه المصلياتُ: أُقيمت الصّلاةُ في المساجدِ الكبيرةِ الجامعةِ.
4- إذا حضر الشّخصُ للمُصَلّى جلس دونَ صلاةٍ قبل العيد، فعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: (أنّ رسولَ الله خرج يومَ أضحى، أو فطرٍ، فصلّى ركعتينِ، لم يصلّ قبلَها ولا بعدَها) رواه مسلم، وقال بعضُ أهلِ العلمِ: إذا كانت صلاةُ العيدِ في المسجدِ فلا بأسَ أنْ يصليَ تحيةَ المسجدِ.
وقتُ صلاةِ العيدِ:
تُشرع صلاةُ العيدِ بعدَ طلوعِ الشّمسِ وارتفاعِها عن الأفقِ بمقدارِ رُمحٍ، وهو حوالي ربعِ ساعةٍ، وتُصلّى دونَ أذانٍ ولا إقامةٍ؛ لقول جابر بن سمرة: (صلّيتُ مع رسولِ الله العيدين، غيرَ مرّةٍ ولا مرّتين، بغيرِ أذانٍ ولا إقامةٍ) رواه مسلم.
صِفةُ صلاةِ العيدِ:
وهي ركعتانِ، يُكبِّر فيها قبلَ قراءةِ الفاتحةِ في الركّعةِ الأولى سبعَ تكبيراتٍ مع تكبيرة الإحرامِ، وفي الثّانية خمسَ تكبيراتٍ بعد تكبيرةِ القيامِ، ويرفعُ يديه مع كلِّ تكبيرةٍ؛ فعن عبدِ اللهِ بن عمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنهما قال: قال نبي الله: (التّكبيرُ في الفطرِ سَبعٌ في الأولى، وخَمْسٌ في الآخِرَةِ، والقراءةُ بعدَهما كلتيهما) رواه أبو داود.ولم يُحفظ عن النبي ذكرٌ معيّنٌ بين التّكبيرات.
كما يُستحبّ في العيدِ أنْ يقرأ الإمامُ بـ (سَبِّحِ اسمَ ربِّكَ الأعْلى) و (هلْ أتاك حديثُ الغاشيةِ)، أو (ق. والقُرآنِ المجيدِ) و(اقتربت السّاعةُ وانشقَّ القمرُ)، كما ثبت عن النّبي .
ويُسنُّ للمُسلمِ بعد الانتهاءِ مِن الصّلاةِ الاستماعُ للخطبةِ؛ لما فيها مِن الخيرِ والأجرِ.
أمّا النّساءُ اللّاتي لا تـجوز لهنّ الصّلاةُ كالحائضِ والنّفساءِ: فيُخصّصُ لهنّ مكانٌ إلى جانب المسجدِ يجلسنَ فيه، ولا يصلّينَ، ويشهدْنَ الخطبةَ، وما فيها مِن تذكرةٍ، ودعاءٍ، وما بعدَ الصّلاةِ مِن تهنئةٍ بالعيدِ.
فإنْ لم يمكن تخصيصُ هذا المكانِ للضّيقِ، أو غير ذلك مِن الأسبابِ: فقد رخّص لها بعضُ أهلِ العلمِ في الدخولِ إلى المسجدِ بشرطِ أنْ تتحفّظَ مِن وصولِ شيءٍ مِن النّجاسةِ إلى المسجدِ، والأَولى أن تجلس خارجَ المسجدِ بحيث يصلُها الصّوتُ؛ لحديثِ أمّ عطية رضي الله عنها (ويعتزل الحيّضُ الـمُصلَّى) متفقٌ عليه.
فواتُ صلاةِ العيدِ:
- مَن فاتته ركعةٌ مع الإمامِ فيقضي ركعةً بتكبيراتها، ومَن أدرك الإمامَ في التّشهد فيقضي ركعتين بتكبيراتِهما.
- إن لم تُصلَّ صلاةُ العيدِ جماعةً في وقتِها لسببٍ كالخوف من عدوٍ: فيجوزُ أداؤها في اليوم الثّاني، وتُصلَّى جماعةً مع الخطبةِ.
- إذا أُقيمت صلاةُ العيدِ في البلدِ، وفاتت بعضَ الأفرادِ: فجمهورُ أهلِ العلمِ على أنَّها تُقضى على صِفَتِها دونَ خطبةٍ، ويصحُّ قضاؤها فرادى أو جماعةً.
مُستحبّاتُ يومِ العيدِ:
يُستحبُّ للمسلمِ يومَ العيدِ عدةُ أمورٍ، مِن أهمها:
1- الاغتسالُ والتَّطيّبُ، ولبسُ أجملِ الثّيابِ، قال ابن القيم –رحمه الله- في "زاد المعاد" : "وَكَانَ [أي رسول الله ] يَلْبَسُ لِلْخُرُوجِ إِلَيْهِمَا أَجْمَلَ ثِيَابِهِ، فَكَانَ لَهُ حُلَّةٌ يَلْبَسُهَا لِلْعِيدَيْنِ".
لكن لا يجوزُ للمرأةِ أنْ تُبديَ زينتَها، أو تتعطرَ وقتَ الخروجِ للصّلاةِ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: (لا تمنعوا إماءَ اللهِ مساجدِ الله، ولكن ليخرجْنَ وهنّ تَفِلاتٌ) رواه أبو داود، ومعنى (تَفِلاتٌ): غيرُ متطيّباتٍ، ولا مُتبرِّجاتٍ بزينةٍ.
2- التّكبيرُ مِن غروبِ شمسِ ليلةِ العيد إلى ابتداءِ صلاةِ العيد.
والأمرُ في صيغةِ التّكبيرِ واسعٌ، ومما وَردَ في ذَلك عن الصّحابةِ رضي الله عنهم قولُ: (اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبرُ كبيرًا)، وقولُ: (اللهُ أكبرُ اللهُ أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبرُ وللهِ الحمد).
ويُسنّ الجهرُ به ورفعُ الصّوتِ للرّجال، فعن ابنِ عُمر رضي الله عنهما: ( أنَّه كانَ إذا غَدا يومَ الأضحى ويوم الفطرِ يَجْهَرُ بِالتّكبيرِ حتى يَأتيَ المصلّى، ثُم يكبر حتى يأتيَ الإمام) أخرجه الدارقطني. أمّا النّساءُ فلا يرفعْنَ أصواتَهنَّ به.
ولا يُشرع تعمّدُ التّكبير الجماعي كأنْ يكبّر شخصٌ ويتبعه البقيةُ، فإن اتفقت أصواتُ النّاسِ في التّكبير فلا حرجَ، ولا يتعمّد المخالفةَ؛ فقد "كان ابنُ عمرَ وأبو هريرةَ يكبّران في أيامِ العشرِ، ويكبّر النّاسُ بتكبيرهما" ذكره البخاري معلّقًا بصيغة الجزم.
3- كثرةُ ذكرِ الله تعالى على ما أنعم به مِن إتمام صيامِ الشهر الفضيل، قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
4- التّوسعةُ على النّفسِ والأهلِ بما يحصل به انبساطُ النّفسِ، وترويحُ البدنِ مِن تَعبِ العبادة؛ فإظهارُ السّرورِ في الأعيادِ مِن شعائر الدّين.
5- تبادلُ التّهنئةِ مع بقية المسلمين، وقد كان الصحابة إذا التقوا يومَ العيد قال بعضهم لبعض: (تَقَبَّل الله منَّا ومنك)، والأمرُ في عبارات التّهنئةِ واسعٌ، فلو قال: عيدٌ مباركٌ، أو تقبَّل اللهُ طاعتَكم وصيامَكم، أو تقبَّل اللهُ منَّا ومنكم، أو كلُّ عامٍ وأنتم بخيرٍ، ونحو ذلك، فكلُّه حسنٌ.
اجتماعُ العيدِ مع الجمعة:
إذا اجتمع العيدُ والجمعةُ في يومٍ واحدٍ فقد رخّص بعضُ أهل العلم لـمَن شهد العيدَ أن يتخلّف عن الجمعةِ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قَدِ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَجْزَأَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) رواه أبو داود، وابن ماجه.
والذي نختاره له: أنْ يحرصَ على أداء صلاةِ الجمعةِ وإن شهد العيدَ مع الإمام، إلا أنْ يشقّ عليه ذلك ممّن قَدِم مِن خارج البلدة لشهود صلاة العيد ، ويعسر عليه البقاء لحضور الجمعة، أو الرجوع مرة أخرى إليها؛ لما ثبت في صحيح البخاري عن عثمان رضي الله عنه أنه صلّى العيدَ، ثمّ خطب فقال: "يا أيُّها النَّاسُ! إِنَّ هذا يومٌ قدِ اجْتَمَعَ لكُمْ فيهِ عيدانِ، فمَنْ أحَبَّ أنْ يَنْتَظِرَ الجُمُعَةَ مِنْ أهْلِ العوالي؛ فليَنْتَظِرْ، ومَنْ أَحَب أن يَرْجِعَ؛ فقدْ أَذِنْتُ لهُ".
ولا بدّ من التنبيه على أمور مهمّة:
الأول: أنّ ترخيص بعض أهل العلم في ترك الجمعة خاصٌّ بمَن صلى العيد مع الإمام، ولا يشمل مَن غاب عنها، أو فاتته الصلاة وأدرك خطبتي العيد فقط.
الثاني: مَن لم يصلّ صلاة الجمعة للترخِّص فيجبُ عليه أن يصلي صلاةَ الظّهر في ذلكَ اليوم.
الثالث: يجبُ على الإمامِ –أو من ينوبُ عنه- أنْ يقيمَ للنّاس صلاةَ الجمعة ليشهدَها مَن لم يحضر العيدَ، ومَن يرى وجوبَ حضورها لـمَن شهد العيدَ.
الاحتفالُ بالعيدِ في الظّروف الحاليّةِ:
يأتي عيدُ الفطرِ هذا العامِ كالأعوام السّابقةِ وبلادُنا المباركة تئنُّ تحتَ إجرامِ النّظامِ الفاجر، وللمسلمين معه في كلِّ يومٍ مآسٍ وتضحياتٌ، ومع ذلك: يُشرع للمسلمين إظهارُ الفرحِ بتمامِ العبادةِ في شهر رمضانَ، والتّوسعةِ على أنفسِهم وأهليهم، لكن مِن غير مبالغةٍ بما يؤذي مشاعرَ المتضرّرين لاسيما مَن فقدوا أقاربَهم.
ويُشرع للقادرين تفقُّدُ أحوالِ إخوانِهم رجالاً ونساء وأطفالاً ، ومواساتُهم بحسب القدرةِ والاستطاعةِ.
كما ينبغي للسّوريين خارجَ سوريةَ مشاركةُ إخوانهم المرابطين في الدّاخل بدعمِهم، والتّوسعةِ عليهم، والإحسانِ إليهم، وعدم المبالغة في الاحتفالات في البلاد التي يقيمون فيها.
حكمُ زكاةِ الفِطر:
زكاةُ الفطرِ فريضةٌ على كلِّ فردٍ مِن المسلمين، صغيرًا كان أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى، سواءٌ صام أم لم يصم لعذرٍ من الأعذار، إذا مَلكَ زيادةً عن قُوتِه وقُوتِ عياله ليلةَ العيدِ، يُخرجها المسلمُ عن نفسِه، وعمّن تلزمه نفقتُه كالزّوجةِ والولدِ.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسولُ اللهِ زكاةَ الفطرِ صاعًا مِن تمرٍ، أو صاعًا مِن شعيرٍ على العبد والحرِّ، والذّكرِ والأنثى، والصّغير والكبير مِن المسلمين) متّفق عليه.
وقد فُرضت زكاةُ الفطرِ لإغناء الفقراءِ والمساكين عن سؤالِ الطّعامِ يومَ العيدِ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسولُ الله زكاةَ الفطرِ؛ طُهرةً للصّائم مِن اللّغو والرّفثِ، وطُعمةً للمساكين) رواه أبو داود، وابنُ ماجه.
فإن كان الشّخصُ فقيرًا أو مسكينًا، سواء كان مقيمًا أو لاجئًا: فيلزمه إخراجُ زكاةِ الفطرِ إذا مَلَكَ زيادةً عن قوتِه وقوتِ عيالِه ليلةَ العيد، ولو استفاد هذه الزيادةَ مِن زكواتِ الفطرِ، أو غيرها مِن الصّدقاتِ التي تأتيه؛ لأنَّه مستطيعٌ لأداء الزّكاة.
فإن كان لديه زيادةٌ قليلةٌ عن قوتِه أو قوتِ مَن يعوله: فإنَّه يُخرج ما يستطيع إخراجَه، ويبدأ بنفسِه، ويسقط عنه الباقي. فإن لم يكن يملك تلك الزيادةَ: فلا زكاةَ عليه؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
مقدارُ زكاةِ الفطرِ:
صاعٌ مِن طعامٍ عن كلِّ شخصٍ، والصَّاعُ: مقدارٌ للكيلِ، ويختلف وزنُه بالأوزان المعاصرة بحسب نوعِ الطّعامِ، ويمكن حسابُه وسطيًا بـ (2.5) كيلو غرامًا تقريبًا، وقدَّره بعض أهل العلم بـ (3) كيلوغرامات، وبأيهما أخرج زكاته أجزأه.
وقتُ وجوبِ زكاةِ الفطرِ:
هو غروبُ شمسِ آخرِ يومٍ مِن رمضانَ، فمن غربت عليه شمسُ آخرِ يومٍ مِن شهر رمضانَ وهو حيٌ فقد وجبت عليه الزّكاةُ، ولو مات بعد ذلك، ومَن مات قبل غروبِ شمسِ آخرِ يومٍ مِن شهر رمضانَ فلا تجب عليه الزكّاةُ، وكذا لا تجبُ الزكاةُ على مَن وُلد بعد مغرب ذلك اليوم . ومَن أراد التّصدّقَ عن هؤلاءِ فله ذلك.
زكاةُ الفطرِ عن الجنين:
لا تجب زكاةُ الفطرِ عن الجنين في بطن أمِّه، لكن استحبّ عددٌ مِن أهلِ العلم إخراجَها عنه؛ لما ورد عن عثمان : "أنّه كان يعطي صدقةَ الفطرِ عن الحَبَلِ" أخرجه ابنُ أبي شيبةَ، وعن أبي قلابة قال: "كان يعجبهم أنْ يُعطوا زكاةَ الفطرِ عن الصّغير والكبيرِ حتى على الحَبَلِ في بطن أمّه" أخرجه عبدُ الرّزاق وابنُ أبي شيبة.
الأنواعُ التي تخرج منها زكاة الفطر:
تُخرَج زكاةُ الفطرِ ممّا يقتاته النّاسُ مِن الطّعامِ، ولا يُشترط في إخراجِها الاقتصارُ على ما ورد في الأحاديثِ مِن أصناف (كالتّمر، والبُرّ، والشّعير)، فيجوز إخراجُها مِن الأرزِّ، والبرغلِ، والزّبيبِ، واللّحومِ، والأجبانِ، ونحو ذلك، ولو مِن الأطعمة المعلَّبة، أو ما يتوفر في اﻷسواقِ وقتَ وجوبِ الزكّاةِ مِن اﻷغذيةِ النّافعةِ للنّاس، وإن كان إخراجُ الطّعامِ المطبوخِ أنفعَ للفقراءِ فجوّزه بعضُ أهل العلم.
قال ابنُ القيّمِ في "إعلام الموقعين": "وهذه كانت غالبَ أقواتِهم بالمدينة، فأمّا أهلُ بلدٍ أو مَحَلّةٍ قوتُهم غيرُ ذلك فإنّما عليهم صاعٌ مِن قوتِهم، كمَن قوتُهم الذّرةُ أو الأرز أو التّين أو غير ذلك مِن الحبوبِ، فإن كان قوتُهم مِن غير الحبوب كاللّبنِ واللّحمِ والسّمكِ: أخرجوا فطرتَهم مِن قوتِهم كائناً ما كان، هذا قولُ جمهورِ العلماءِ، وهو الصّوابُ الذي لا يُقال بغيره؛ إذ المقصودُ سَدُّ خَلَّةِ المساكين يومَ العيدِ، ومواساتُهم مِن جنسِ ما يقتاته أهلُ بلدِهم..، فإذا كان أهلُ بلدٍ أو محَلّةٍ عادتُهم اتخاذُ الأطعمةِ يومَ العيدِ جاز لهم، بل يُشرع لهم أنْ يواسوا المساكينَ مِن أطعمتِهم، فهذا محتملٌ يسوغ القولُ به، والله أعلم".
إخراجُ زكاةِ الفطرِ نقدًا:
ذهب جمهورُ الفقهاءِ إلى أنَّه لا يجوزُ إخراجُ زكاةِ الفطرِ نقدًا لمستحقّيها؛ لأنّ الأصلَ في العبادات التّوقيفُ، وقد ورد الشّرعُ بالنّصّ على الطّعامِ، وهو ما عمل به الرّسولُ، وصحابتُه مِن بعده، كما أنَّ الحكمةَ مِن زكاةِ الفطرِ -كما سبق- إطعامُ الفقراءِ والمساكين ليلةَ العيدِ ويومَه، لا توفيرُ حاجاتهم مِن الملبوسات، والمساكن، وغيرِها، فتلك تلبّيها الزكّاةُ والصّدقاتُ الأخرى.
لكن يجوز دفعُها نقدًا لـمَن يقوم بشراءِ الطّعامِ، كالجمعياتِ الخيريةِ، والموكَّلِين بإخراج الزكّاةِ عن غيرِهم ونحوهم، ثمّ يقومون بتوزيع الزكّوات على المستحقّين في الوقت المشروعِ ﻹخراجِ الزكّاة.
ويكون تقديرُ سعرِ صاعِ الطّعامِ وقتَ جمعِ الزكّاةِ، مع الاحتياطِ بزيادةِ المقدارِ؛ نظراً لتذبذبِ سعرِ العُملة، واختلافِ التقديرِ بين المناطق، أو يكون تقديرُ ثمنِها بالعملات المستقرّةِ، ويمكنُ الرجوعُ في التقديرِ لما تُعلِنُه الهيئاتُ الشرعيةُ المحليّة، أو المحاكم، أو المجالس المحلية.
وما حلّ بسوريةَ مِن أزمةٍ وحاجةٍ وحصارٍ، واتجاهِ الهيئاتِ الإغاثية لتوفير السّلالِ الغِذائية في المقام الأوّلِ، يزيد القناعةَ بأنَّ حاجةَ الفقيرِ للطّعامِ كثيرًا ما تكونُ أشدَّ مِن حاجتِه للمالِ؛ فإنَّ الطّعامَ الذي يأخذه الفقيرُ لا يتأثّر بارتفاعِ الأسعارِ، وتتحقّقُ له به الكفايةُ مِن الطّعامِ خلالَ أيامِ العيدِ مهما غلا ثمنُه، وهو مقصودُ الشّرعِ مِن زكاةِ الفِطرِ، بخلافِ مَن أخذ الزكّاةَ نقداً فقد لا تكفيه لشراء ما يحتاجه مِن طعامٍ في ظلِّ الارتفاعِ المتزايدِ للأسعار، أو لا يستطيع الحصولَ عليه في ظروفِ الحِصارِ.
كما أنَّ القائلين بجواز إخراج الزكاة نقدًا يرون أنَّ الأولى إخراجُها مِن الطّعامِ في أوقاتِ الأزَماتِ، قال الإمام الطحاويُّ الحنفي في "الحاشية على مراقي الفلاح": "وإن كان زمن شدّةٍ فالحنطةُ والشّعيرُ وما يؤكل أفضلُ مِن الدّراهم".
لكن لو كان في مكانٍ يملك فيه المالَ، ولا يملك الطّعامَ، ولم يمكنه شراؤه فلا بأسَ بإخراجِها نقدًا.
كيفيةُ دفعِ الزكّاةِ للمستحقّين:
يجوز دفعُ عدّةِ زكواتٍ لمستحقٍّ واحدٍ، أو عائلةٍ واحدةٍ، ويكون ذلك بالنّظر في مقدار الحاجةِ، وعدد المستحقّين في البلد.
وقتُ إخراجِ زكاةِ الفطرِ:
الأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة، ويُجزئُ إخراجها قبل العيدِ بيوم أو يومين فقط، ولا تجزي بعد صلاة العيد؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مَن أدّاها قبلَ الصّلاةِ، فهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومَن أدّاها بعد الصّلاةِ، فهي صدقةٌ مِن الصّدقاتِ) رواه أبو داود، وابن ماجه، ولا يؤخّرها إلى ما بعد الصّلاةِ إلا مِن عُذرٍ، كعدم قدرةٍ على إيصالِها لمستحقّيها مع بذل الجهدِ، أو تعذُّر وجودِ مستحقين، ولا تبرأ ذمّةُ الشّخصِ إلا بأدائِها ولو كان تأخيرُها مِن غيرِ عذرٍ.
كما يجوز جمعُها قبلَ وقتٍ لترتيب إخراجِها، ولو كان قبلَ العيدِ بأيامٍ، لا سيّما للمؤسّساتِ والجمعياتِ التي تحتاجُ لوقتٍ طويلٍ في الترّتيبِ والجَمعِ، لكن لا تُعطَى لمستحقّيها إلا يومَ العيدِ أو قبلَه بيومٍ أو يومين، كما ثبت عن الصّحابة أنَّهم: (كانوا يُعطون قبلَ الفطرِ بيومٍ أو يومين) رواه البخاري.
نقلُ زكاةِ الفطر:
الأصلُ أنْ يُخرج الشّخصُ زكاةَ الفطرِ في المكانِ الذي يُقيم فيه، ويجوز نقلُها إلى بلدٍ آخرَ إذا كان في ذلك مصلحةٌ راجحةٌ، كوجودِ مَن هم أشدُّ حاجةً لها، أو كان مِن الأقارب المحتاجين، كما هو الحالُ في إرسالها إلى سوريةَ ممّن هم خارجَها.
نسأله تعالى أنْ يفرّجَ عن إخواننا المستضعفين في كلِّ مكانٍ، وأنْ يجزي المنفقين خيراً، وأنْ يَخلفَهم خيراً في أموالِهم، وأنْ يُغني أهلَنا في سوريةَ، ويرفعَ الحاجةَ عنهم..
وصلّى اللهُ وسلّم علي نبيّنا محمّدٍ، وعلى آله وصحبِه أجمعين، والحمدُ لله ربّ العالمين.
أصلُ هذه المادةِ هذه مجموعةٌ مِن الفتاوى أصدرها المكتبُ العلمي، وهي: (حكم دخول العيد وصلاة العيد في ظل البطش والعدوان، أحكام زكاة الفطر، وما الأنواع التي تخرج منها؟ وهل تجب على الفقراء واللاجئين؟)، وقد رُفعت على الموقع مصممةً على شكل مطويةٍ جاهزةٍ للنشرِ والتوزيع.
* يمكنكم قراءة المطوية وتحميلها من الروابط في الأعلى أو من هنا.