حكم إجراء الانتخابات لاختيار أعضاء مجالس الأحياء واللجان الثورية
السؤال:
تواجهنا في الداخل قضية عند اختيار أعضاء مجالس الأحياء وغيرها من اللجان الثورية حيث يعترض البعض على إجراء انتخاب للمناصب القيادية أو المجالس الإدارية لأنها من الديمقراطية المحرمة، وأنه لا يعتد بالأكثرية في الإسلام، فما هي الطريقة الشرعية لاختيار الأعضاء في هذه المناصب؟ وهل الانتخابات فعلاً محرمة؟ وهل صحيح أن الاختيار ينبغي أن يقتصر على أهل الحل والعقد؟
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فقد أوجب الإسلام تقديم الأكفأ والأقدر على القيام بالولايات والمناصب، بما يحقق مصلحة الناس وتسيير حوائجهم، لكنه لم يفرض عليهم طريقةً معينةً لهذا الاختيار، وبيان ذلك فيما يلي:
أولاً: الأصل في اختيار القائمين على الولايات والمناصب أن يكونوا من أهل الصلاح والكفاءة على القيام بما تتطلبه الولاية من أعمال ومسؤوليات، قال تعالى: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].
قال ابن تيمية –رحمه الله- في "السياسة الشرعية": "فَإِنَّ الْوِلَايَةَ لَهَا رُكْنَانِ: الْقُوَّةُ وَالْأَمَانَةُ".
فإذا تقدم لذلك المنصب أكثر من شخص وجب شرعاً اختيار الأصلح والأكفأ للقيام بأعباء هذا المنصب.
ويُتوصَّل إلى اختيار الأكفأ عن طريق الشورى، كما قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، والشورى هي جمع الرأي إلى الرأي وتقويته به، وليس لها شكل محدد يجب الالتزام به، أو لا يجوز الخروج عنه.
ثانيًا: لم يحصر الإسلام اختيار أصحاب الولايات والمناصب في طرق معينة؛ بل ترك ذلك للناس واجتهادهم.
ومما ورد من أنواع الاجتهاد: ما كان في بيعة العقبة الثانية حينما بايع الأنصار النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يمنعوه مما يمنعون به نساءهم وأبناءهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِم) رواه أحمد.
فقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة أن يختاروا اثني عشر رجلاً نواباً لهم وممثلين عنهم، ولم يحدد لهم طريقة الاختيار.
ثالثاً: نظام الانتخاب الشائع الآن هو الاختيار بالتصويت وفق آليات معينة، ويُقصد به: اختيار شخصٍ لتولي منصب معين استدلالاً بكثرة أصوات المؤيدين له.
ومع أن آلية التصويت بالانتخاب وفق الآليات المعاصرة نازلة مستجدة لم تكن موجودة في التاريخ الإسلامي، إلا أنها من مسائل العادات والمعاملات التي تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال، والأصل فيها: الإباحة، وليس في النصوص الشرعية وقواعدها العامة ما يدل على منعها وتحريمها.
بل ورد في سير الصحابة والمسلمين ما يدل على أهمية اعتبار رضى الناس فيمن يتولى أمورهم، ومن ذلك:
* في غزوة مؤتة وبعد استشهاد القادة الثلاثة الذين عيَّنهم النبي صلى الله عليه وسلم، تراضى الناس على تأمير خالد بن الوليد على الجيش، قال ابن حبان –رحمه الله- في "السيرة النبوية": "وأَخَذَ الراية ثابت بن أقرم وقال: يا معشر المسلمين! اصطلحوا على رجل منكم... فاصطلح الناس على خالد بن الوليد".
وقد أقرَّ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
* مشورة عبد الرحمن بن عوف لعامة المسلمين في اختيار الخليفة بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، ففي صحيح البخاري: "فَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ" ، وذلك لاستشارتهم في الأمر، حتى قال المِسْوَرُ بن مَخْرمة كما في مصنف عبد الرزاق: "وَاللَّهِ مَا تَرَكَ أَحَدًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَلَا ذَوِي غَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ إِلَّا اسْتَشَارَهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ".
ثم قال عبد الرحمن: "إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ".
* أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال لأهل البصرة: "اطْلُبُوا وَالِيًا تَرْضَوْنَهُ"، كما في البداية والنهاية لابن كثير.
* وما ورد في تاريخ الطبري عن عمر بن هبيرة أنَّه قَالَ لمسلم بن سعيد حين ولَّاه خراسان: "عَلَيْكَ بِعُمَّالِ الْعُذْرِ" ، قَالَ: وَمَا عُمَّالُ الْعُذْرِ؟
قَالَ: "تَأْمُرُ أَهْلَ كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يَخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ، فإذَا اختارُوا رجلاً فَوَلِّه، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا كَانَ لَكَ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا كَانَ لَهُمْ دُونَكَ، وَكُنْتَ مَعْذُورًا".
وكثيرًا ما يكون البديل عن الانتخابات هو: التفرُّد بالقرار من شخصٍ أو فئة من الناس دون آخرين تحكُّماً، ومفسدةُ هذا أرجح من مصلحته؛ لأن رضا الناس عمّن يتولَّى أمورهم أدعى لتعاونهم معه في تحقيق المقصود من الولاية، وهذا الرضى أرجى حصولاً في الانتخابات منه في البدائل الأخرى.
رابعًا: لا تلازم بين الديمقراطية والانتخابات؛ فإن الانتخابات طريقة يختار فيها الناس مَن يرضون لتولي شؤونهم وإدارة مصالحهم، أما الديمقراطية فهي تعني في أصلها الفلسفي: ذلك النظام الذي تكون سلطة التشريع فيه من حق الشعب.
فالديمقراطية منظومة فكرية ذات منهج وعقيدة، يمكن أن تتخذ آليات وأدوات عديدة لتحقيق أهدافها ومن ضمنها: الانتخابات، بينما الانتخابات آلية ووسيلة يمكن استخدامها داخل المنظومة الديمقراطية وخارجها على حدٍ سواء.
وإن ثبت أنَّ الانتخابات غربية المنشأ، فهذا لا يمنع من الاستفادة منها؛ لأنها من تدابير شؤون الدنيا، فمثلها مثل سائر التنظيمات الجديدة في التعليم والمرور وغيرها.
وقد استفاد النبي صلى الله عليه وسلم من تجارب الأمم السابقة ما فيه خيرٌ ونفع، ومن ذلك استعماله للخاتم في مراسلاته، وحفر الخندق في حربه مع قريش، وكذلك فعل عمر بن الخطاب في استعماله للديوان ولم يكن مستعملاً من قبل.
قال الخطابي كما في "فتح الباري" : "َلمْ يَكُنْ لِبَاسُ الْخَاتَمِ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ، فَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الْمُلُوكِ اتَّخَذَ الْخَاتَمَ".
خامسًا: أما رفض الانتخابات بصورتها العامة الحالية، وتخصيصها بـ "أهل الحل والعقد" فقط، فيجاب عنه بـ :
* أن الأمة هي صاحبة الحق في اختيار من يحكمها ويدير أمورها، وقد تعبر عن اختيارها مباشرة، أو من خلال وكلائها وهم "أهل الحل والعقد".
وقد كان العلماء ووجهاء الناس ورؤساء القبائل يُمثِّلون الناس وينوبون عنهم في هذا الاختيار، نظراً لاعتراف الناس بهم وإقرارهم لهم بحق الطاعة والتبعية، وعدم عصيانهم أو الخروج عما يبرمونه في الشؤون العامة.
وهذا المقصود لا يتحقق في هذه الأزمنة إلا بالرجوع لعموم الناس واستشارتهم وأخذ موافقتهم.
وحتى لو أوكلنا الأمر إلى أهل الحل والعقد، فالحاجةُ قائمةٌ لمعرفة هؤلاء الذين ترضاهم الأمة أهلاً للحل والعقد فيها، وهذا ما تسعى الانتخابات لتحقيقه.
* أنَّ أصحاب الولايات والمناصب نواب عن الأمة في تحقيق مصالحهم، ولذلك من حق كل شخص ابداء رأيه في اختيار من ينوب عنه في تدبير شؤونه ومصالحه.
* ثم إنَّ الأصل في الشورى أن تكون عامةً في المسلمين، لا خاصةً بطائفةٍ منهم، كما دلت عليه العمومات الشرعية في قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، وقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}، فعمَّ ولم يخصص فئة دون أخرى.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (أشيروا علي أيها الناس).
وقام عمر بن الخطاب في المدينة خطيباً وقال: "مَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ، تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا" رواه البخاري، ومعنى (تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا): أنه عرض نفسه ومن بايعه للقتل وغرّر بهما, فجعل الشورى في "المسلمين" وهو لفظ عام.
* ثم إن الإمامة الكبرى لا يكفي فيها مبايعة طائفة من المسلمين حتى يقبل بها جمهور المسلمين وتحصل بها القدرة والشوكة، وهذا المعنى موجودٌ في هذه المناصب الصغرى في حال انعدام الإمام ومباشرة الناس للقيام بهذه المهام، فكان لا بد من اعتبار رضاهم واختيارهم.
قال ابن تيمية –رحمه الله- في "منهاج السنة" عن بيعة أبي بكر الصديق: "ولو قُدّر أن عمرَ وطائفة معه بايعوه وامتنع سائرُ الصحابة عن البيعة لم يصر إماماً بذلك.
وإنما صار إماماً بمبايعة جمهور الصحابة الذين هم أهل القدرة والشوكة ... فإنَّ المقصود حصول القدرة والسلطان اللذينِ بهما تحصل مصالح الإمامة، وذلك قد حصل بموافقة الجمهور على ذلك"
سادساً: أما الاعتراض بأنَّ الانتخابات تقوم على الأكثرية وهو مبدأ مذموم في الشريعة.
فالجواب عنه: أنّ اعتبار الكثرة والميل إلى رأي الأكثرية أمرٌ مستقرٌ في الفِطر، ودلّت عليه العقول، وشهدت له أدلةُ الشريعة، فليس مطلق اعتبار الكثرة مذموماً في الشريعة، وإنما جاء الذمُّ لاتّباع الكثرة إذا كانت على خلاف الحجة والبرهان، فالكثرةُ في الباطل لا اعتبار بها، ولا تجعل الحقَّ باطلاً، ولا الباطلَ حقاً.
وليس ثمَّة ما يمنع مِن الترجيح بالأكثرية في الأمور المباحة التي لا يترتب عليها مخالفة شرعية، بل جاء في النصوص الشرعية وآثار السلف وكلام العلماء شواهد كثيرة لاعتبار الأكثرية، ومن ذلك :
1- النصوص التي جاءت في الحث على الجماعة، ولزوم ما يجتمع عليه الناس، وبيان أنه كلّما زاد العدد في الرأي الواحد كان أقربَ إلى الصّواب، وأبعد عن الشيطان، كما في الحديث: (عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ) رواه الترمذي.
2- أخذ رسول الله -صلى الله عليه- وسلم برأي جمهور الصحابة في الخروج يوم أحد مع أنه خالف رأي أصحاب الخبرة والشيوخ .
قال ابن كثير –رحمه الله- في "تفسيره": "وَشَاوَرَهُمْ فِي أُحُدٍ فِي أَنْ يَقْعُدَ فِي الْمَدِينَةِ أَوْ يَخْرُجَ إِلَى الْعَدْوِّ، فَأَشَارَ جُمْهُورُهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ".
3- أخذ عمر -رضي الله عنه- برأي الأكثرية بشأن طاعون عمواس، وذلك قبل أن يظهر له النص، ولذلك قال ابن حجر في الفتح : "وفيه الترجيح بالأكثر عدداً والأكثر تجربة".
4- كما أخذ علماؤنا بمبدأ الأكثرية في أمور عدة منها:
* إذا اختلف أهل المسجد في اختيار الإمام ، قال الماوردي –رحمه الله- في "الأحكام السلطانية: "عمل على قول الأكثرين".
* ترجيح علماء الحديث بين الروايات بكثرة الرواة عند التعارض.
* تقرير المذهب في المدارس الفقهيّة المشهورة يتم في كثير من الأحيان برأي الأغلبية.
* ترجيح علماء الفقه لبعض المسائل الخلافية بالكثرة أحيانًا إن لم يترجح الأمر بدليل واضح.
قال ابن القيم –رحمه الله- في "إعلام الموقعين" عن اختلاف الصحابة : "وإن كان أكثرهم في شق فالصواب فيه أغلب ".
* اتفقت المجامع الفقهيّة والهيئات العلمية الشرعيّة في الوقت الحالي بصدور القرارات أو الفتاوى العامة برأي الأغلبيّة.
ثم إن الكثرة في الانتخاب تكون معتبرة في دائرة من توافرت فيهم شروط الناخب لا عموم الناس، فمن المعلوم أن الناخب له شروط في كل التجارب المعاصرة، فهي ليست أكثرية دون ضابط أو قيد.
وحاصل ما سبق:
أنَّه يجوز الأخذ بالانتخاب المعاصر وسيلةً لاختيار أعضاء الإدارات المحلية ومناصبها المختلفة، ولا يمنع هذا من النظر في تحسينها أو تطويرها، ووضع الضوابط والأنظمة الكفيلة لاختيار الأليق بهذه المناصب.
مع التأكيد على الناخبين بتقوى الله في اختيار ممثليهم، وأن يختاروا الأمثل فالأمثل ممن جمع بين القوة والأمانة.
قال ابن تيمية في "الفتاوى": "فإنْ عدَلَ عن الأحقِّ الأصلح إلى غيره لأجل قرابةٍ بينهما، أو صداقة، أو مرافقة في بلد، أو مذهب، أو طريقة، أو جنس، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحقِّ، أو عداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهي عنه في قوله تعالى {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27].
نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في ديننا وأن يولي علينا خيارنا ولا يولي علينا شرارنا ونسأله سبحانه أن يهلك الفجار من المجرمين والكفار وأن ينصر عليهم الأخيار الأبرار.