ظاهره الالتزام ويفعل بعضَ المعاصي سرًّا، فهل هذا مِن النفاق؟
السؤال: أنا شابٌّ مستقيمٌ ولله الحمد، ولكن تغلبني نفسي الأمَّارة بالسُّوء فأقع في بعض المعاصي أثناء خلوتي، هل هذا مِن النِّفاق الذي يحبط الأعمالَ كما نفهم مِن حديث: (لأعلمن أقوامًا مِن أمتي، يأتون يوم القيامة بحسناتٍ أمثالِ جبال تِهامةَ، فيجعلها الله عز وجل هباءً منثورًا)؟
الجواب:
الحمدُ لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ الله، وبعد:
مَن غلبتْه نفسُه ووقع أثناء خلوتِه في بعض المعاصي والآثام، فالواجبُ عليه أن يجاهدَ نفسَه في الإقلاع عنها، مع التوبة والندم والاستغفار، ولا يكون بذلك منافقًا، ولا يحبط عملُه بالكلِّيَّة.
وبيانُ ذلك كما يلي:
أولًا: َ
شرع الله لعباده التوبةَ والاستغفارَ، والإكثارَ مِن الطاعات عند الوقوع في الذنوب والمعاصي.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8]
وأمرهم بالسَّتر على أنفسِهم وعدم المجاهرة بالذُّنوب.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلُّ أُمّتي مُعافًى إِلّا المجاهرين، وإنّ مِنَ المجاهرةِ أنْ يَعملَ الرّجلُ باللّيلِ عَملًا، ثُمّ يُصبحَ وقد سَترَه اللّهُ عليه، فيقول: يا فُلانُ، عَمِلتُ البارحةَ كذا وكذا، وقدْ بات يَسترهُ رَبُّه، ويُصبحُ يَكشِفُ سِترَ اللَّهِ عنه) متفق عليه.
وعن عبادةَ بنِ الصّامتِ رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: (تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَسَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ)، متفق عليه.
فالسَّترُ على النَّفْس وعدمُ المجاهرة بالذنوب والمعاصي ليس مِن النفاق، بل هو مِن أسباب غفران الذُّنوب؛ كما جاء في الحديث القدسي الصحيح: (أنا سترْتُها عليكَ في الدُّنيا، وأنا أَغْفرها لك اليوم)، رواه البخاري وأحمد واللفظ له.
ثانيًا:
لا شيء يُحبط العملَ بالكلِّيَّة إلا الكفرُ والشِّركُ بالله، كما قال تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [البقرة:217].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} [الزُّمَر:65]
قال ابنُ تيمية في مجموع الفتاوى: "وأمَّا الحسنات فلا تُذهِب ثوابَها السَّيئاتُ مطلقًا".
وقال: "إنَّ الله لم يجعل شيئًا يُحبِطُ جميعَ الحسنات إلا الكفر".
والحبوط الوارد في النُّصوص والآثار عن السَّلف -ما لم يكن كفرًا أو شركًا- محمولٌ على الحبوط الخاص ببعض الحسنات، لا على ذهابها بالكلِّيَّة مع ذهاب أصل الإيمان الذي يجعل صاحبَها منافقًا أو كافرًا.
ثالثًا:
أمَّا الحديث الذي رواه ابن ماجه وغيره عن ثوبان رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (لأَعْلمنَّ أقوامًا مِن أُمّتي، يَأتون يومَ القيامةِ بحسناتٍ أَمثالِ جِبالِ تِهامةَ بِيضًا، فيجعلُها اللَّهُ عزّ وجلَّ هَباءً مَنثورًا)، قالَ ثَوبانُ: يا رسولَ اللَّهِ، صِفهمْ لنا، جَلِّهمْ لنا، أَنْ لا نكونَ مِنْهم ونحنُ لا نَعلمُ، قال: (أما إِنَّهم إِخوانُكم ومِن جِلْدتِكمْ، ويَأخُذون مِن اللَّيلِ كما تَأخُذُون، ولكنّهم أقوامٌ إذا خَلَوْا بمحارمِ اللَّهِ انْتَهكوها).
فلا يصحُّ الاستدلالُ به على أنَّ مَن غلبتْه نفْسُه فوقع بالمعاصي في خلواته وتكرر منه ذلك أنَّه يحبط عملُه بالكلِّيَّة أو يكون مِن المنافقين، مِن وجهين:
الأوَّل: أنَّ في ثبوتِه عن النبي صلى الله عليه وسلم نظرًا، فقد تفرد برواية هذا الحديث عقبةُ بنُ علقمة المعافري، ولم يتابَع عليه، وهو مِن طبقة متأخِّرة، وليس هو بمنزلةٍ عُليا مِن الحفظ والضبط والإتقان، ولا مِن المكثرين في الرواية؛ ليُقبل منه مثلُ هذا التفرد بهذا الحديث الذي تضمّن معانيَ مستغرَبة.
وجعلُ السَّيئاتِ مبطلةً لقيام اللَّيل والحسناتِ مخالفٌ للأصل المتقرِّر في كتاب الله أنَّ إقامة الصَّلاة وصلاة اللَّيل خاصة مِن مكفّرات الذنوب، كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِين} [هود:114]
وقد دلت الأحاديثُ على وجوب الاستتار بالمعاصي وحرمة المجاهرة بها.
الثاني: أنَّ ثمَّة فرقًا بين إخفاء المعصية "حياءً" وبين إخفائها "نفاقًا".
فالأول هو حالُ المؤمن الذي يفعل الذنب إما لغلبة الشهوة أو طاعةً للنفس الأمارة بالسوء، ثم لا يلبث أن يعاودَ التوبة والاستغفار، مع الانكسار والشعور بالذنب.
والثاني هو حال المنافق الذي يُظهر خلافَ ما يُبطن، وإذا خلا بنفسِه انتهك محارمَ الله بكلِّ جرأة ووقاحةٍ دون مبالاةٍ، استهتارًا واستخفافًا بما حرَّم لله.
فهذا الثاني هو المقصود بالحديث -على القول بصحته-؛ لأنّ ما يفعله مِن حسنات في الظاهر كانت رياءً ونفاقًا، فيجعلها الله هباءً منثورًا، وإن كانت أمثالَ الجبال.
وفي أمثال هؤلاء نزل قوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108].
قال ابنُ كثير في تفسيره: "هذا إنكارٌ على المنافقين في كونهم يستخْفُون بقبائحهم مِن الناس لئلا يُنْكِروا عليهم، ويجاهرون الله بها؛ لأنه مطّلعٌ على سرائرهم، وعالمٌ بما في ضمائرهم".
وفي كتاب "الأهوال" لابن ابي الدُّنيا أن مالك بن دينار لما حُدِّث بهذا الحديث قال: "هذا النِّفاق وربِّ الكعبة".
وختامًا:
فإنّ الواجبَ على المسلم ألَّا تغيبَ عنه حقيقةُ عداوةِ إبليسَ له وتربُّصِه به، وأنّه يجتهد في إيقاعِه بالمعاصي، ونسيانِ مراقبة الله له، والغفلةِ عن سوء أفعاله، فإنْ بدأ بمحاسبةِ نفْسِه ونوى التوبةَ قنّطه مِن رحمة الله، وأوقعه في اليأس مِن قَبول توبتِه؛ ليترك الطاعةَ والرجوعَ إلى الله.
والعاصمُ من ذلك كلِّه: تذكّرُ عظمةِ الله وقدرته وشدّة عقابه وسعة رحمتِه، والعلمُ بأنّ بابَ التوبة مفتوحٌ ما لم تخرج الروح، والحذرُ مِن التهاون بالمعاصي واستصغارها، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إنَّ المؤمنَ يَرى ذُنُوبَه كأنّهُ قاعدٌ تحتَ جبلٍ، يَخافُ أَنْ يقعَ عليه، وإِنَّ الفاجِرَ يَرَى ذُنوبَه كَذُبابٍ مَرَّ على أنْفِه، فقال به هكذا" رواه البخاري.
والله أعلم.