ترك صلاة الجمعة بسبب الانشغال في العمل أو منع المدير
السؤال:
صاحبُ العمل يمنعنا مِن صلاة الجمعة بحجَّةٍ وبغير حجَّة، ولا يسمح لنا بالعطلة إلا يوم الأحد، وأحيانا يتعمّد أن يشغلنا يوم الجمعة عن الصلاة، فهل نصليها ظهرًا؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فصلاةُ الجمعة مِن فروض الأعيان التي لا يجوز التهاون فيها، ولا التخلف عنها إلا لعذر، ولا يجوز للمسلم أن يتعاقد على عملٍ لا يُمَكِّنه مِن أداء صلاة الجمعة إلا عند الضرورة، وبيانُ ذلك:
أولاً:
فرض اللهُ صلاةَ الجمعة على الرجال الأحرار البالغين المقيمين.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].
وعن طارق بن شهاب رضي اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (الجُمُعَةُ حَقٌّ واجِبٌ على كُلِّ مُسلِمٍ في جَماعَةٍ إلا أربَعَةً: عبدٌ مَملوكٌ، أوِ امرأةٌ، أو صَبِيٌّ، أو مَريضٌ) رواه أبو داود.
قال ابنُ المنذر: "أجمَعوا على أنَّ الجمعة واجبةٌ على الأحرار، البالغين، المقيمين، الذين لا عُذرَ لهم".
وقال ابنُ عبد البَرِّ: "أجمَع علماءُ الأمَّة أنَّ الجمعةَ فريضةٌ على كلِّ حرٍّ، بالغٍ، ذَكَر، يدركه زوالُ الشمس في مِصرٍ مِن الأمصار وهو مِن أهل المصرِ غير مسافر".
وجاءت النصوصُ الشرعية بالوعيد الشديد على ترك الجمعة مِن غير عذر:
عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، يقول على أعواد منبره: (لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ) رواه مسلم.
وعن أبي الْجَعْدِ الضَّمْرِيِّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه.
ومعنى الختمِ والطَّبعِ على القلب: أن يُجعل بمنزلة المختوم عليه، لا يصل إليه شيء مِن الخير، وأن يصير قلبُه قلبَ منافق، إلا أن يتوب.
قال ابن عبد البر في الاستذكار: "والختمُ على القلوب مثل الطبع عليها، وهذا وعيد شديد؛ لأنّ مَن طُبع على قلبِه وخُتم عليه لم يَعرف معروفاً ولم يُنكر منكراً".
ثانياً:
لا يحلُّ لمسلم أن يمنع عمّالَه عن أداء ما فرض الله عليهم بشكلٍ مباشر أو غير مباشر عن طريقِ تعمُّدِ شَغْلِهم وقتَ الفرض؛ فلا يزاحِم العملُ فرضَ الله تعالى.
قال ابنُ قدامة في المغني: "قال أحمد: أجير الـمُشاهَرة -يعني مَن يُستأجر مدةَ شهر لخدمة ونحوها- يشهد الأعياد والجمعة ولا يَشترط ذلك، قيل له: فيتطوع بالركعتين؟ قال: ما لم يضرَّ بصاحبه.
وإنما أباح له ذلك؛ لأن أوقات الصلاة مستثناةٌ من الخدمة".
وقال ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج: "يستثنى مِن زمن الإجارة: فِعْلُ المكتوبة ولو جمعةً -لم يخش مِن الذهاب إليها على عمله-، وطهارتها، وراتبتها، وزمن الأكل، وقضاء الحاجة، وظاهرٌ: أنّ المرادَ أقلُّ زمنٍ يحتاج إليه فيهما".
وينبغي لمن ابتلي بصاحب عملٍ يمنعه مِن الواجبات أن ينصح له ويذكّره بتقوى الله تعالى، وبعاقبة الظلم والتضييق بغير حق؛ فالدين النصيحة، فإن لم ينفع النصح فلا حرج في الاستعانة بالأنظمة إن كانت تساعد في رفع هذا البلاء.
ثالثًا:
رخّص العلماءُ للمقيم في التخلف عن حضور صلاة الجمعة عند وجود المشقة والحرج، وقد دلت على ذلك عموم نصوص الشريعة.
قال الله تعالى: {وَمَا َجعَلَ علَيْكُمْ فِي الدِّينِ منْ حرَجٍ}[الحج: 78]
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتُم).
والأعذارُ المبيحة للتخلف عن حضور الجمعة، ترجع أصولها إلى: الخوف على النفس، أو الأهل، أو المال، أو يَلحق بحضورِها الإنسانَ مشقةٌ شديدةٌ.
قال اللَّخْمي في التبصرة: "الأعذار التي تجيز التخلف عن الجمعة أربعةٌ، وهي: ما يتعلق بالنفس، والأهل، والدِّين، والمال".
والعذر بالنفس: المرض الذي لا يقدر معه على الوصول إلى مكان الصلاة، أو يقدر عليه بمشقة غير معتادة، أو أعمى لا يجد قائدًا، أو أن يخاف سلطانًا إن أمسكه قتله أو عاقبه أو أضر به.
والعذر في الأهل: أن تكون زوجته أو ابنته أو أحد أبويه قد اشتد به المرض أو احتضر؛ فيجوز له التخلّف، وكذلك لو كان قريبُه أو رفيقه مريضًا يخشى عليه وليس عنده مَن يقوم برعايته.
والعذر في الدين: بحيث إن ظهر خاف أن يُلزَم بأمر لا يجوز، مِن قتلِ معصوم، أو ضربِه، أو سبّه، أو بيعة مَن لا يجوز العقد له.
والعذر في المال: أن يخاف في سعيه أو حضوره من غاصب ولصوص، أو يخاف أن يسرق بيته، أو يحترق شيءٌ من ماله، فيجوز له التخلف.
قال الشافعي في الأم: "والعذر: المرض الذي لا يقدر معه على شهود الجمعة إلا بأن يزيد في مرضه، أو يبلغ به مشقة غير محتملة، أو يحبسه السلطان، أو من لا يقدر على الامتناع منه بالغلبة، أو يموت بعض مَن يقوم بأمره مِن قرابة أو ذي آصرة -أي: صلة وعلاقة- مِن صِهرٍ أو مودة أو مَن يحتسب في ولاية أمره الأجرَ، فإن كان هذا فله ترك الجمعة".
وقال: " وإن أصابه غَرَقٌ أو حَرْقٌ أو سُرِقَ وكان يرجو في تخلُّفِه عن الجمعة دفعَ ذلك أو تداركَ شيء فَلَتَ منه: فلا بأس أن يدع له الجمعة، وكذلك إن ضلَّ له ولدٌ أو مال مِن رقيق أو حيوان أو غيره فرَجا في تخلُّفِه تداركَه كان ذلك له".
وقال المازري في شرح التلقين: "ويستعمل في جميع ذلك عند فقد الآثار والظواهر: المُوازنة بين تأكّد وجوب الجمعة ومقدار ما ينال من الضرر لحضورها ...، فمَن أحاط بهذا علمًا ردَّ إليه أكثر الخلاف في فروع هذا الباب".
وقال النووي في المجموع: "باب الأعذار في ترك الجمعة والجماعة ليس مخصوصًا، بل كل ما يلحق به مشقة شديدة فهو عذر".
ومن ذلك: شدَّةُ المطرِ والوحلِ والريحِ والبردِ.
رابعًا:
العمل وطلب الرزق ليس بعذر لترك الجمعة من حيث الأصل؛ فقد أمر الله بالسعي للصلاة وترك البيع عند النداء لصلاة الجمعة، إلا أنه قد تعرض عوارضُ ترخّص في الترك.
قال ابن قدامة في الكافي في أعذار ترك الجمعة: " والخوف: ... سواء خاف على نفسه ... أو ناطور بستان يخاف سرقة شيء منه" انتهى مختصراً.
وما سبق هو في العذر الطارئ.
وأما العمل الدائم الذي يستلزم ترك صلاة الجمعة باستمرار فلا يكون عذراً؛ لأنه يفضي لترك الفرض والشعيرة.
ولا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر تعاطي الأسباب التي تؤدي به إلى ترك صلاة الجمعة؛ ومِن ذلك تعاقدُه للعمل عند مَن يمنع مِن أداء صلاة الجمعة أو لا تسمح طبيعة العمل بأدائها في وقتها دون حاجة أو ضرورة.
قال الله سبحانه وتعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
ويستثنى من ذلك حالتان:
الأولى:أن يحصل بترك العمل مفسدة كبيرة أو تتعطل بذلك مصالح كبيرة لا يمكن أن تتأتى بالتخلّف عن العمل، كالجنود المرابطين، والشرطة الحافظين للنظام والأمن، والحراس للمصانع والمعامل والمزارع التي يخشى سرقتُها أو تخريبها، والأطباء المسعفين... ونحوهم.
الثانية:أن يكون مضطراً للعمل أو محتاجاً إليه حاجة شديدة لا يستطيع دونها تأمينَ نفقاته ونفقات مَن يعول الضرورية والحاجية التي تلحقه بتركِها مشقة شديدة، وهو غيرُ واجدٍ لعمل آخر؛ فيجوز له أن يبقى في هذا العمل حتى تزول الضرورة أو يجد بديلاً يستطيع الانتقال إليه.
قال المرداوي في الإنصاف: "ومما يُعذر به في ترك الجمعة والجماعة: خوف الضرر في معيشة يحتاجها أو مال استؤجر على حفظه كنظارة بستان ونحوه".
خامساً:
متى أمكن إقامة صلاة الجمعة في مقر العمل بشروطها مع تفادي الضرر والضرورة التي دعت إلى التخلف عنها في المسجد الجامع فإنها تكون لازمة.
كما ينبغي التنبه إلى أن الضرورة تقدر بقدرها فلو أمكن الاستغناء مثلاً باثنين من الحراس فلا يعذر الثالث في تركه الجمعة وهكذا.
قال الشيخ مصطفى الزرقا معلقاً على هذه القاعدة في كتابه شرح القواعد الفقهية: " وَفَائِدَة وضع هَذِه الْقَاعِدَة عقب السَّابِقَة التَّنْبِيه على أَن مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَة من الْمَحْظُورَات إِنَّمَا يرخَّص مِنْهُ الْقدرُ الَّذِي تنْدَفع بِهِ الضَّرُورَة فَحسب، فَإِذا اضْطر الْإِنْسَان لمحظور فَلَيْسَ لَهُ أَن يتوسع فِي الْمَحْظُور، بل يقْتَصر مِنْهُ على قدر مَا تنْدَفع بِهِ الضَّرُورَة فَقَط".
سادساً:
مَن فاتته صلاة الجمعة ولم يتمكّن مِن حضورها في المسجد الجامع أو إقامتِها في مقر العمل فإنه يلزمه أن يصلي صلاة الظهر بدلاً عنها ولا تسقط بالكلية.
قال ابنُ المنذر في الإجماع: "أجمَعوا على أنَّ مَن فاتتْه الجُمعةُ مِن المقيمين أن يُصلُّوا أربعًا".
قال النوويُّ في المجموع: "وأجمعتِ الأمَّةُ على أنّ الجمعةَ لا تُقضى على صورتها جمعة، ولكن مَن فاتته لزمته الظهر".
وفي الختام:
نسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يوفق أرباب العمل للالتزام بشرع الله، وليعلموا أنّ رزقَهم مكتوب فلا يستعجلوه بمعصية الله، (وأنّ نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلَها وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدَكم استبطاءُ الرزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإن الله تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعتِه) رواه الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه.
وليتذكروا قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}
والله أعلم.