ودخلت السنة التاسعة
ما كان الطريق الطويل والمعاناة الهائلة مصيراً أردناه واخترناه، إنما أراد أهل سوريا أن يعيشوا بحرّية وكرامة وإنسانية وحسب، ولقد وَدّوا أنّ طريقاً غيرَ ذي شوك يوصلهم إلى الغاية التي يريدون، وشاء الله أن يُسلِكهم غيرَ ذاك الطريق، فسلكوا السبيل الشاق الطويل لأن التغيير كبير ثقيل. ولكنّ كل طريق لا بد له من نهاية، وكل ركب سيحطّ الرحال ذات يوم وإنْ طال الارتحال.
في أواخر سنوات الحرب العالمية الأولى الطويلة الكئيبة كان للمارشال فوش (القائد الأعلى لجيوش الحلفاء) سائق اسمه بيير، وكان زملاؤه كلما شاهدوه سألوه: متى تنتهي الحرب يا بيير؟ لا بد أنك تعلم بسبب علاقتك بالجنرال. فكان بيير يعدهم بأن يخبرهم إذا سمع من المارشال أي خبر. ثم جاءهم في أحد الأيام فقال: لقد تكلم المارشال اليوم، فسألوه باهتمام: وماذا قال؟ فأجابهم قائلاً: لقد نظر إليّ وقال: وأنت يا بيير، ماذا ترى؟ متى تنتهي هذه الحرب؟
ثم جاء وقت انتهت الحربُ فيه، ولكنْ بعد موتٍ ودمارٍ غير مسبوقَين في تاريخ العالم، لم يَفُقْهما هولاً وبشاعة إلا الموتُ والدمار اللذان جاءت بهما الحرب الثانية التي تفجّر بركانُها بعد انتهاء الأولى بعقدين. الحربان تركتا أوربا أقربَ إلى العصر الحجري، دمار ودماء وفناء في كل مكان، حتى إن دولاً فقدت واحداً من كل عشرة من سكانها، كألمانيا واليونان، ودولاً فقدت واحداً من كل سبعة، روسيا ولاتفيا وليتوانيا ويوغوسلافيا، أما بولندا فقد مُحيت من الخريطة بالكامل، وعندما عادت بلداً مستقلاً بعد الحرب كان واحد من كل خمسة من سكانها في عداد الأموات.
ثم نهضت تلك الدول واستعادت عافيتها وصارت واحات سلام واستقرار وبات الوصول إليها أملاً للمشردين والمعذبين في أنحاء الأرض، فنحن اليوم نغبط سكانها على الأمان والرخاء اللذين يعيشون فيهما، كما غبطونا على النعيم يوم عاشوا هم في الجحيم وعلى الرخاء يوم أنهكهم البلاء، يوم أحرقتهم نارُ الحربَين ولم يصلنا من شُواظها إلا أقل القليل.
يا أيها الناس: إنها عبرة التاريخ؛ الدنيا دَوّارة والأيام دول. يوماً ما ستنتهي هذه المأساة وتصبح أهوالها خبراً من أخبار الزمن الغابر كما غدت أخبار الحربين العالميتين، يوماً ما ستعود بلدنا درّة بين البلاد وينعم أهلها بالحرية والكرامة والرخاء والأمان. بالجِدّ والإصرار والصبر والصدق والإخلاص سنحقق ذلك كله بإذن الله. لن نحققه بالأمل والرجاء وحده ولا بالأمانيّ والأحلام، بل بالعمل الجاد المخلص وبالتوكل الحقيقي على الله، سنحققه بمشيئة الله ولو طال الطريق.