الخميس 19 جمادى الأول 1446 هـ الموافق 21 نوفمبر 2024 م
الثورة السورية في عامها الثامن أمل يتجدد وسياسات جديدة
الخميس 21 رجب 1440 هـ الموافق 28 مارس 2019 م
عدد الزيارات : 13315

 

الثورة السورية في عامها الثامن
أمل يتجدد وسياسات جديدة

 


ما بين آذار 2011 وآذار 2019 سنوات طويلة من التعب والتضحية عاشها الشعب السوري وتحمل مرارتها وقساوة طريقها في سبيل حرية بلده وكرامته، في ذلك التاريخ بدأت ثورة سلمية ثم أضحت ساحة مفتوحة لحرب متعددة الأطراف، فقدمت الآلاف من أبنائها على مذبح الحرية، وتوزع أهلها في أصقاع الأرض يبحثون عن بقعة آمنة لا يصل إليها إجرام قاتلهم وجلادهم، بين آذار وآذار سنوات من الدماء والقهر والعذاب، إلا أن الثورة ما زالت على عهدها الأول، وما زالت تخب المسير نحو هدفها على الرغم من قلة النصير وخذلان الصديق وتكالب الأعداء.
قد تبدو صورة الواقع اليوم سوداوية وضبابية في آن واحد، فالقوى الثورية كما هي في السابق مشتتة لا تصل إلى توافق سياسي أو عسكري حقيقيين، أدى ذلك إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، بل وصل الأمر في كثير من الأحيان إلى الاقتتال فيما بين الأصدقاء وتوجيه فوهة السلاح إلى المكان الخطأ، إضافة إلى ذلك تعيش سورية احتلالات وولاءات متنوعة مما يؤثر في جدية المشاريع الوطنية ويبرز آثارها وإشكالياتها على الساحة السورية.
وكذلك فإن فقدان الثورة العديد من المناطق الاستراتيجية المهمة (حلب- الغوطة- إدلب- ريف حلب الغربي) وتبعية الفصائل وعدم قدرتها على اتخاذ قرارها باستقلالية، جعل الكثيرين يرون أننا اليوم لا نملك مناطق نعول فيها على مشروع وطني، ولا نملك فصائل تستطيع أن تتخذ قرارها من ذاتها. وتبقى المناطق التي تسيطر عليها تحرير الشام خارج دائرة الثورة، وكذلك مناطق الشمال السوري بسبب فقدان استقلاليتها الكاملة.
في ملف هذا العدد تسلط مجلة (نور الشام) الضوء على هذا الواقع وتسأل: ما الذي يجب أن يفعله السوريون على اختلاف مواقع عملهم في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ الثورة السورية؟
لا تنتهي الثورة ما دامت أسبابها
يقول البعض إن الشعب السوري فقد أوراق قوته، فلم يبق من الفصائل إلا الغلاة، وبعض الفصائل التي لم تتمكن حتى الآن من توحيد جهودها في مشروع وطني مستقل، كيف سيستطيع الشعب الاستمرار في معركة التحرير وهو لا يملك الكثير من الأرض والسلاح؟ يرى الباحث الأكاديمي د. بشير زين العابدين أن الادعاء بأن الشعب السوري فقد أوراق قوته غير صحيح، فالتراجع الذي منيت به فصائل المعارضة قد وقع نتيجة ثلاثة أخطاء تمثلت في:

  1. ربط قطاع مهم من المشروع الفصائلي بفكر الغلو والتطرف والتساهل مع تلك الجماعات.
  2. التمترس في المناطق الآهلة بالسكان وتبني سياسات دفاعية أدت إلى استنزاف تلك القوى.
  3. الاقتتال الداخلي الذي أفضى إلى وقوع انتهاكات فاضحة قامت الثورة لأجل تفاديها، وعلى الرغم من فداحة المشهد.

إلا أن التراجع الذي منيت به تلك الفصائل قد أسهم في تحريرها من عبء النطاق الجغرافي الذي كبلت نفسها به من قبل، بحيث أصبح من المتاح لها التركيز على توجيه ضربات نوعية ومعنوية تضعف النظام في المناطق الآمنة له، وسيكون لذلك أثر أكبر في إضعاف النظام وتدمير بنيته القمعية من الإستراتيجية السابقة المتمثلة في شن عمليات واسعة النطاق أو تبني سياسات دفاعية لمناطق شاسعة دون توفر الإمداد اللازم.
ويشير  د. بشير زين العابدين إلى أن هنالك توجها لإنشاء مناطق آمنة في محافظات مختلفة من سوريا، وسيكون لكثير من الفصائل أدوار أمنية مهمة في تلك المشاريع، علماً بأن هذه الفصائل لم تفقد بناها التحتية ولا تزال قادرة على إعادة التشكيل في حال توفر البيئة اللازمة لتحقيق ذلك، إلا أنه لا بد من التنبيه على ضرورة التخلص من العبء العددي بعد التخلص من عبء النطاق الجغرافي والتركيز على تشكيل فرق متخصصة في العمليات خلف خطوط العدو، ووضع بنك أهداف لتصحيح المسار، والتركيز على استهداف المفاصل الإستراتيجية للنظام.

وكذلك يؤكد المعارض المستقل د. ياسر العيتي بأن الثورة لم تنتهي، وأن القول بأن الثورة انتهت من افتراض مفاده أن الصراع الذي بدأ في سورية آذار 2011 هو صراع عسكري بينما هو صراع بين شعب ينشد حريته وسلطة مستبدة. بهذا المعنى الصراع لم ينته ولن ينتهي ما دامت أسبابه موجودة وقائمة.  وما ينقص الثورة اليوم هو وجود رأس يمثلها ويمتلك الشرعية الداخلية والخارجية ولديه القدرة على إدارة أدوات الصراع المختلفة مع النظام (العسكرية والسياسية والاقتصادية والحقوقية). 

وعلى صعيد آخر يرى د. زين العابدين أن مشروع الغلو يلفظ أنفاسه الأخيرة في سوريا على وقع سلسلة من الحماقات التي ارتكبتها قيادة تلك الجماعات التي تفقد آخر جيوبها في الشرق، وتعاني من انشقاقات خطيرة ومواجهات تودي ببنيتها ومواقع نفوذها بصورة كاملة في الشمال الغربي، في حين يلفظ الشباب السوري الذي غُرر به هذه الأفكار الهجينة التي تم توريدها من مصادر استخباراتية باتت مكشوفة للجميع.


الانفكاك من قيود الارتهان
يشهد الشارع السوري حراكا شعبيا يسعى إلى إعادة التشكيل الميداني لانطلاقة جديدة، إلا أنه يواجه تحديات كثيرة من أهمها الارتهان إلى أجندات خارجية، فصار عنوان المرحلة التي تعيشها الثورة هو غياب القرار الوطني وخروج المبادرة الوطنية من أيدي السوريين، يقول د. بشير زين العابدين: إن تقليص الدعم الخارجي، وانفضاح الأدوار المشبوهة للعديد من القوى الدولية التي ادعت "صداقة" الشعب السوري ثم انحازت إلى النظام سيسهمان في تمايز الصفوف في مرحلة قطف الثمار؛ ولتحقيق ذلك فإنه يتعين تخليص مؤسسات المعارضة من الشخصيات القيادية التي باتت معروفة بتبعيتها الإقليمية وارتهانها بأجهزة استخبارات خارجية، ومنعها من الاستمرار في تزعم تلك المؤسسات بعد انكشاف دورها في ممارسة الارتزاق والتحريض والاستقواء بالخارج وكتابة التقارير وإقصاء القوى الوطنية و"تهجين" المعارضة بعناصر محسوبة على النظام، والارتهان لأجندات صراع إقليمية لا تخدم الثورة بأية حال.
أما د. ياسر العيتي فيرى أن الخروج من دوامة الارتهان يكون بتشكيل الرأس السياسي للثورة الذي مقره في الداخل المحرر والذي تتبع له الإدارة المدنية المركزية والجيش الوطني ويملك الشرعية الداخلية والخارجية ويأخذ بعين الاعتبار المصلحة التركية وفق البوصلة الوطنية. الأتراك وغيرهم من الدول الفاعلة في الشأن السوي سيحترموننا أكثر ويتعاملون معنا بجدية أكثر عندما يكون لنا رأس يحدد المصلحة الوطنية ثم يبحث عن تقاطعها مع مصالحهم. بدلا من حالة التشرذم والتبعية الحالية.
كما يضيف د. زين العابدين أن هناك معادلة جديدة تسفر عن حزمة من الفرص التي يتعين على قوى الثورة اقتناصها، إذ إن تغير قواعد اللعبة المحلية والإقليمية والدولية لا يعني بالضرورة انتصار النظام المترهل والآيل للسقوط، ولا يعني كذلك هزيمة الثورة التي لا تزال تمتلك الكثير من أدوات التأثير وعناصر القوة لو أحسنت استخدامها.
ويمكن إلقاء الضوء على الحراك الواسع الذي تشهده قوى الثورة في الأشهر الماضية حالة لتقييم أداء مؤسسات المعارضة التي باتت تعاني من: ضعف التأييد الشعبي، واحتدام الصراع البيني، وتضاؤل الدعم الخارجي، فضلاً عن الجهود الدولية لنقل العملية التفاوضية إلى دمشق عبر إنشاء "معارضة هجينة" تتماهى مع الرؤية الروسية، ولا تمانع من العمل تحت مظلة النظام، والدعم الدولي الذي تتمتع به بعض النزعات الانفصالية تحت مسمى "الإدارة الذاتية".
وتدور تلك المشاورات حول سبل إعادة التشكيل السياسي والميداني للتعامل مع تحديات المرحلة، ولا يمكن أن يحقق ذلك الحراك هدفه إلا من خلال توسيع دوائر التواصل والحوار، ونبذ التقسيمات التقليدية والتصنيفات المجحفة، والخروج من بوتقة التبعية والوصاية. وتقتضي عملية إعادة التشكيل السياسي تبني خطاب وحدوي وطني شامل لا يلغي الهويات الفرعية بل يستوعبها في إطار جامع تتوافق مكوناته على قواسم مشتركة تشمل سائر أبناء الوطن، وذلك في مواجهة مشاريع التقسيم والمحاصصة التي تتبناها بعض القوى الدولية عبر "اللجنة الدستورية".


مبادرات فاشلة لتلميع الأسد
اتجهت  بعض الدول العربية إلى العمل على مشروع إعادة نظام الأسد إلى الحضن العربي وإلى حظيرة جامعة الدول العربية بعد عزلة طويلة، وقد رأينا زيارة الرئيس السوداني لدمشق وسمعنا تصريحات الترحيب بالأسد والمطالبة بإعادة المياه إلى مجاريها، هذه الدعايات وعمليات التلميع جعلت البعض يتحدث عن هزيمة الثورة ومؤسساتها المختلفة، وانتصار النظام ورسمه خريطة السيطرة النهائية،  يقول د. بشير زين العابدين معلقا على ذلك: "على الرغم من الإخفاقات التي منيت بها قوى الثورة في الفترة الماضية؛ إلا إنه من المهم تفادي التقييم المجحف لها ونعتها بالفشل، إذ إن الإفراط في التقييم السلبي سيفوت فرصاً مهمة للبناء على المنجزات التي تحققت منذ عام 2011، والتي تتمثل في: إفقاد النظام الشرعية، وفرض العزلة الدولية عليه، وكشف سياساته الطائفية التي كان يخفيها بغطاء فاقع من القومية والممانعة الزائفة، واستنزاف قدراته العسكرية، وتقليصه إلى مستوى التبعية لقوى خارجية يرتهن مصيره باستمرار دعمها، وتوجيه ضربات نافذة لمؤسساته القمعية، وفضح السجلات المروعة لانتهاكاته الجسيمة وفساده الممنهج، وذلك في مقابل تمتع القوى الثورية بقدر من التمثيل السياسي ومرونة الحراك الدبلوماسي، والاعتراف الدولي بالمطالب المشروعة للشعب السوري، والأهم من ذلك كله إيقاظ جذوة الحرية والكرامة في نفوس شعب عانى خمسة عقود من الدكتاتورية والحكم الشمولي، وسيكون من المؤسف إخفاق قوى الثورة في التصدي للمهمة الأعظم والمتمثلة في مكافأة التضحيات الشعبية الكبيرة بمنجزات وطنية تتناسب مع حجم تلك التضحيات".
ويؤكد د. زين العابدين أن دخول الثورة في مرحلة جديدة مطلع عام 2019؛ لا يعني بالضرورة هزيمة مؤسساتها أو انتصار النظام عليها، بل تعني الانتقال إلى مرحلة جديدة لها أدوات مختلفة ووسائل مغايرة، حيث ينتقل المشهد السياسي للثورة من مرحلة "الهدم" إلى مرحلة "البناء"، وذلك على وقع انحسار العمليات القتالية، وانهماك القوى الفاعلة في وضع البنى التحتية للتشكل البنيوي.
وبمقارنة ما يحصل اليوم مع أحداث الثورة السورية الأولى (1920-1927)، يقول د. زين العابدين: في عام 1927 بدا للوهلة الأولى أن الفرنسيين قد تمكنوا من إخماد الثورة السورية بعد سبع سنوات من القتال؛ إلا أن عام 1928 شهد تغيراً في قواعد اللعبة، حيث هيمنت قوى الثورة على المشهد السياسي عبر انتخاب جمعية تأسيسية لصياغة دستور للبلاد برئاسة هاشم الأتاسي ت 1960م أسفرت عن وضع ثاني دستور للبلاد ينص على تشكيل جمهورية نيابية عاصمتها دمشق ودين رئيسها الإسلام، وسط رفض المفوض الفرنسي واعتراضه على بنود الدستور، ودخول البلاد في مرحلة التشكيل البنيوي التي أسفرت عن إعلان الجمهورية عام 1932.
الثورة لم تنتهي، ولم تفشل، وإنما نحن في صدد الانتقال من مرحلة لأخرى، وقد حاولت بعض الدول العربية إعادة عقارب الساعة عبر محاولة التطبيع مع نظام دمشق وإعادة تأهيله، تحت ذريعة "إعادة سوريا إلى الحضن العربي"، إلا أن هذه المحاولات باءت بفشل ذريع، حيث وجه العديد من المسؤولين الأمريكيين تحذيرات شديدة اللهجة للمسؤولين في بعض الدول العربية من مغبة تمويل النظام وإعادة تأهيله ملوحين بمعاقبتهم وفق قانون "قيصر" الذي يجري العمل على إقراره بصورة نهائية.
وعن مشروع "الحضن العربي" يضيف د. زين العابدين تلقى المشروع صفعة موجعة نتيجة رفض النظام لتلك المبادرة، وشن إعلامه حملة معادية لتلك الدول، ورفض بشار الأسد طوق النجاة الذي ألقته المبادرة العربية إليه لإخراجه من أزمته الاقتصادية الخانقة، ولجوئه بعد ذلك إلى طهران بصحبة قائد فيلق القدس قاسم سليماني، حيث طلب المساعدة من حلفائه العقائديين الذين وقفوا معه طوال السنوات الثماني الماضية.
كما تلقت المبادرة العربية ضربة ثالثة تمثلت في رفض القوى الكردية لها، حيث قام قياديون أكراد بجولة غربية عبروا فيها عن رفضهم دخول أية قوات عربية إلى مناطق شرقي الفرات وطالبوا بإشراف القوات البريطانية والفرنسية والأمريكية بدلاً عنها، الأمر الذي قابلته الدول الغربية بترحيب كبير مقابل البرود في تعاملها مع المبادرة العربية غير الناضجة.
وتشعر هذه الدول بمرارة كبيرة إثر تقلص فرص تأثيرها في الملف السوري (فضلاً عن العراقي واللبناني) نتيجة فشلها في تحقيق موطئ قدم، حيث تتنافس القوى التي تحتفظ بوجود عسكري (روسيا وتركيا وإيران) على الاستئثار بغنائم المعركة، ويقتصر الدور العربي على عرض التمويل اللازم لإنقاذ بشار من أزمته الاقتصادية الخانقة دون أي مردود يذكر على الأرض.
أما د. ياسر العيتي فيرى أن هناك من يريد إطالة عمر النظام السوري إلى أطول فترة ممكنة تحقيقا لمصالحه لكن إعادة الشرعية لبشار الأسد غير ممكنة بعد الجرائم التي ارتكبها. فقانون سيزر والتصريحات المتكررة من مسؤولين أوربيين تمنع المشاركة في إعادة الإعمار وأي تعامل مع نظام الأسد ما لم يتجاوب مع القرارات الدولية التي يعني التجاوب معها نهايته الحتمية.
ممارسة سياسية جديدة
دخلت الثورة منذ سنوات في مرحلة الدفاع عما حققته من تقدم سياسي، من دون التطلع إلى مكتسبات جديدة، وكانت هناك عوامل كثيرة أدت إلى هذا الوضع، ما الفرص المتبقية للثورة السورية لتصحح مسارها وتبدأ من جديد وما الذي يتوجب فعله من أجل بناء ممارسة جديدة للعمل الثوري؟ يقول د. بشير زين العابدين:  في أتون الحالة المروعة التي أفضى إليها المشهد السوري؛ تسفر تحولات المشهد عن معادلة جديدة تتضمن حزمة من الفرص التي يتعين على قوى الثورة اقتناصها، إذ إن تغير قواعد اللعبة المحلية والإقليمية والدولية لا يعني بالضرورة انتصار النظام المترهل والآيل للسقوط، ولا يعني كذلك هزيمة الثورة التي لا تزال تمتلك الكثير من أدوات التأثير وعناصر القوة لو أحسنت استخدامها.
ويعرض د. زين العابدين أربع نقاط قوة يمكن الاستفادة منها، هي:

  • تطوير الخطاب الوطني في هذه المرحلة الحاسمة، إذ إن مؤسسات الثورة قد أدمنت مخاطبة حاضنة أخذت تتضاءل إثر الخلافات البينية خلال السنوات الماضية، وحصرت جهودها الإعلامية على وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى استجداء الإعلام العربي المشغول بخوض صراعات إقليمية مزرية، فضلاً عن القنوات الفضائية التي ظهر ارتهان أجنداتها للدول بصورة مخجلة. ولمعالجة ذلك القصور لا بد من تبني خطة إعلامية تهدف إلى مخاطبة شرائح واسعة من الشعب السوري، أبرزها دوائر النازحين واللاجئين الذين يشكلون نصف المجتمع السوري ويعيشون خارج سلطة بشار الأسد، ويعانون من سياسات التمييز والتضييق في بلدان اللجوء، في حين يستخدمهم بشار الأسد كأوراق ضغط ويصنفهم في دائرة "الخيانة"، يضاف إليهم شريحة واسعة من الفئات التي طالما تم تصنيفها ضمن دائرة "الموالاة" لكن انتفاضاتها الأخيرة ضد النظام تدفعنا لإعادة تقييم أدائنا الإعلامي، والعمل على خطاب وطني لا يستبعد أو يهمش أياً من فئات المجتمع. كما تمثل الجاليات السورية المقيمة في الخارج والتي يقدر تعدادها بالملايين، ونحو ثلاثة آلاف منظمة مدنية تشكو من الإهمال والتهميش آفاقاً واسعة لخطاب إعلامي يلقي الضوء على معاناة الشعب السوري وعلى مطالبة المشروعة.
  • تمثل مسارات العدالة والمحاسبة مجالات واعدة، حيث تحققت في الأشهر الماضية منجزات مهمة في مجال المحاسبة الدولية إثر قبول دعاوى جنائية رفعها مواطنون سوريون إلى النيابة العامة في العديد من الدول الأوروبية، وصدور أوامر بتوقيف القادة الأمنيين والعسكريين للنظام، وذلك بالتزامن مع تقدم ملحوظ في مشروع قانون "قيصر" بالولايات المتحدة الأمريكية. كما تمثل تحقيقات اللجان الدولية باستخدام السلاح الكيميائي، والشكوى القضائية الأخيرة أمام المحكمة الجنائية الدولية التي قدمها محامون بريطانيون بوكالتهم عن لاجئين سوريين اختراقات نوعية في مسار العدالة، إضافة إلى صدور المزيد من قوائم العقوبات الغربية ضد قيادات النظام والتي تسهم في تعميق عزلته. ويتعين على قوى الثورة في الفترة المقبلة من تكثيف جهودها في مجالات توثيق الانتهاكات وتحديد الجناة، وضمان محاسبتهم.
  • في مقابل الجهود الدولية التي تُبذل لتهجين المعارضة ودفعها للقبول بالعمل تحت مظلة النظام؛ يتعين على قوى الثورة تبني خطط رديفة تهدف إلى تكثيف جهود وقف محاولات شرعنة النظام وإعادة تأهيله، وإكساب مؤسسات المعارضة صفة الشرعية وذلك من خلال تشكيل جسد بيروقراطي خدمي كحكومة ظل تضع خططاً وطنية لرفع المعاناة عن ملايين السوريين في مناطق النظام وفي المناطق الخارجة عن سيطرته، والسعي لتحقيق أكبر قدر من الاعتراف من قبل المنظمات الإقليمية والهيئات الدولية والأممية بالدور الأمني والوظيفي الذي تقوم به المعارضة، وبسيادتها في المناطق الآمنة عبر مفاهيم الانتخاب والتمثيل الشعبي.
  • ويمثل التحول الدولي نحو إنشاء مناطق آمنة فرصاً جديدة لعمل قوى الثورة والمعارضة في مناطق لم تكن متاحة لهم من قبل، خاصة وأن النظام قد أفشل جميع المبادرات الغربية والعربية لإنقاذه من أزمته الاقتصادية، ويسفر مشهد الصراع الدولي حول سوريا عن محاولات حثيثة لإنشاء مناطق نفوذ تحمي دول الجوار وتصون حدودها، وتدفع باتجاه إعادة اللاجئين وتوفير البنى التحتية والخدمات الأساسية لهم ضمن مفهوم "الرفاهية المجتزأة"، وذلك كرد فعل على تعنت النظام وإمعانه في التقارب مع إيران، والاستمرار في سياسات القمع والتغيير الديمغرافي وإثارة الاحتقان المجتمعي وتبني إجراءات تضمن عدم عودة اللاجئين والنازحين.

وكذلك يعرض د. ياسر العيتي أربع نقاط للعمل هي:

  1. لا بد من توحيد الفصائل العسكرية الموجودة في الشمال في جيش وطني واحد.
  2. يجب انتهاج المقاومة الشعبية المسلحة في مناطق النظام، وهو ما بدأ فعلا في درعا إضافة إلى الاستمرار في أعمال المقاومة السلمية التي لا تعرض القائمين بها الى الخطر (الكتابة على الجدران وتحطيم أو تشويه رموز النظام من صور وشعارات وأصنام) فهذه الأعمال على بساطتها لها رمزية قوية وأثر معنوي كبير إيجابي على أهل الثورة، وأثر سلبي على النظام وحاضنته.
  3. بالنسبة إلى الشمال السوري لا بد من وجود إدارة مدنية واحدة وتحسين ظروف عيش الناس والبدء بالمشاريع الاقتصادية والتعليم وبناء نموذج ناجح في الإدارة والتنمية الاقتصادية يكون نواة لسورية المستقبل.
  4. إن التفاهم مع الأكراد في المناطق التي ستكون خاضعة للنفوذ التركي في الشمال وإشراكهم في الإدارة أمر بالغ الأهمية ويصب في مصلحة السوريين والأتراك، مع استبعاد القوى المحسوبة على حزب العمال الكردستاني.

المستقبل والتحديات
أمام الثورة السورية اليوم الكثير من التحديات أهمها هو إيمان الشعب بالثورة، فالنظام وحلفاؤه يريدون من السوريين أن ييأسوا من ثورتهم وأن يتخلوا عن مسؤوليتهم تجاه بلدهم، فما السيناريوهات المتوقَّعة؟ لا يتوقع د. ياسر العيتي حلا سريعا للأزمة السورية، ويرى أن الحل يحتاج إلى توافق روسي امريكي، وما تزال شروط تحققه غير متوفرة في المدى المنظور. وإلى أن تنضج هذه الظروف يجب أن نستعد نحن المؤمنين بالثورة لملاقاتها بما يحقق المصلحة الوطنية ويكون ذلك بأمرين:

  1. الحفاظ على خطابنا الوطني الثوري الذي يتمسك بإنهاء حالة الاستبداد مما يعني -حكما- انتقالاً سياسياً يقضي بخروج بشار ودائرته المتهمة بارتكاب جرائم حرب من المشهد السوري بطريقة ما.
  2. تشكيل نموذج حكم وإدارة ناجح في الشمال يكون شقاه المدني والعسكري تابعين للرأس السياسي.

أما د. بشير زين العابدين فيرى أن المجتمع الدولي لا يزال بعيداً عن صياغة عملية سلمية مستدامة، في ظل غياب إستراتيجية واضحة للدول المبادرة للتطبيع مع النظام، وعدم توفر أية قوة ميدانية مساندة لها؛ والشلل الذي أصاب مساريْ "جنيف" و"أستانة" التفاوضيين، وهي معضلة لا تقتصر على المشهد السوري فحسب، بل تشمل العراق وسوريا وليبيا واليمن، والسودان والجزائر اللتين التحقتا مؤخراً بركب الجمهوريات العربية المتداعية. أما القوى الفاعلة فتحضر لشوط جديد من الصراع الدولي، حيث تُعدُّ كل من واشنطن وتل أبيب لحملة تصعيد ضد المواقع الإيرانية في سوريا، وتحشد أنقرة قواتها على الحدود مع سوريا، وتحضر الميلشيات الكردية لصد الهجوم التركي المزمع، وتُمعن طهران في حشد المزيد من الميلشيات التابعة لها على الحدود السورية-العراقية، الأمر الذي يدفع للاعتقاد بأن سوريا مقبلة على مواجهات عسكرية شاملة.
لكن العنوان الأبرز لدى حلفاء بشار الأسد هو البحث عن بديل له بعد أن استنفد جميع أوراقه، وأصبح إبقاؤه يمثل عبئاً كبيراً، ويدور الحديث في الأروقة الاستخباراتية الإيرانية والروسية فضلاً عن بعض الأجهزة الغربية عن البدائل المحتملة لبشار الأسد الذي سلم مقاليد قواته المسلحة للقيادة العسكرية الروسية، ولم يعد قادراً على احتواء الخلافات العائلية التي تربك القصر الجمهوري، ويواجه حالة غير مسبوقة من السخط الشعبي في المناطق التي كانت توصف بأنها موالية نتيجة الأزمة الاقتصادية الخانقة، ويعبر المسؤولون الروس عن إحباط شديد من تفشي الفساد في الدائرة المحيطة به، وعدم قدرته على مواجهة الملفات الملحة المتمثلة في إعادة نصف الشعب السوري، وتبني خطط للإصلاح الاقتصادي والأمني، واعتماده المفرط على الدعم الخارجي لإدارة الأمور اليومية للبلاد.