المرأة وبناء المجتمع
إنها امرأة تعرف حقيقة السعادة، لأنها تُدرك معنى الحياة، وتفهم قيمة الوُجود، وتستوعب حكمةَ الخالق في خلقِه، ولأنها تسعى إلى الكمال، وتحرص على السمُوِّ والرفعة -لأنها كذلك كانت المرأة التي يُريدها المجتمع للرُّقيِّ، وتُريدها الأمَّة للنُّصرة وتبديل الحال، امرأة مِعْطاء فعَّالة، تَجد متعتَها في التضحية والبذل، وتقديم الغالي والرخيص مِن أجل مبادئها الخاصة وأسرتها ومجتمعها وأُمَّتها الإسلامية الكبرى.
إنها المرأة التي تستوعب قولَ الله سبحانه وتعالى {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} (الأنبياء: 16)، وتفهم تكريم الله سبحانه وتعالى لابن آدم، وإسجاد الملائكة له؛ {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، وتُدرك معنى السعادة، وأنها ليستْ بالأَخْذ بل بالعطاء، وليستْ بتوفير الحاجات للنفس بل بتأمين الحاجات للآخرين، وليستْ في مجرد تطوير الذات، بل في تطوير الآخرين مِن حولها.
فالسعادة النفسية عند علماء النفس مُرتبطةٌ بتحقيق السلوك الذي يجلب لصاحبه الرضا عن النفس؛ أي: إنها مرتبطةٌ بعاطفة اعتبار الذات، يقول علماء النفس: "كلما حقَّق الإنسان أكبر قسطٍ من الأعمال والواجبات والمهامِّ التي تُرضيه عن نفسه عاش في سعادةٍ وأمنٍ وراحةٍ قلبيةٍ".
وأهمُّ هذه المهام: تحقيق الغاية مِن وُجوده، وهي الخِلافة والعبودية والعلم وتحمُّل الأمانة التي كلَّفه الله تعالى بحمْلِها، والمسابقة لفِعْل الخيرات؛ {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الملك: 2)؛ لذلك كان أسعد الناس هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وابتعدوا عن الموبقات، واقتربوا مِن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وما أُنزل عليه من القرآن؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} )محمد: 2) وهي تنشأ أيضًا مِن التوافُق التامِّ الموجود بين نزعات الشخص وعواطفه، والمبدأ المتكامل هو المبدأ الذي يستطيع أن يُحقِّق السعادة لنفسه ولأكبر عددٍ ممكنٍ مِن البشر.
إنها تُدرك أن لعبة إبليس هي: كشف العورات، وإظهار السَّوْءات، وتغيير الخلق، وتلوين الوجه، وتبديل الصنعة الربانية، ولعبته إشغال الناس بـ(قال وقُلْنا)، وضحك وتمتُّع، وإشغالهم بالأمور الجانبية عن الأمور المهمة والأهم؛ بل إن أسلوبه أن ينقل من يُريد الطاعة المهمَّة إلى طاعاتٍ، كلُّ واحدةٍ أقلُّ أهميةً مِن سابقتها، حتى يصل به إلى معصية صغيرة ثم كبيرة وهكذا.
إنها تعرف حقيقة السعادة، إنه العمل والجهد والتعب والإنجاز، وكما يقول المفكِّرون العلماء والأطباء: التعب والعطاء يَزيد الحيوية، ويبعث السعادة والبهجة، يقول أحدُ الأطباء النفسيين: "لم أجدْ بين مرضاي واحدًا يمكن أن يكون ناشئًا مرضُه مِن العمل الشاقِّ".
قاومي التعب، قاومي الكسل، قاومي الملَل، وانطلقي في الحياة؛ فالحياةُ جميلة بقَدْر ما تُقدِّمين مِن خيرٍ، وبقَدْر ما تُوفِّرينه لأهلها مِن فائدةٍ ونفعٍ، وبقَدْر ما تَمنحينه لمبادئك وأهدافك مِن تحقيقٍ وتنفيذٍ.
إنَّ العملَ الشاقَّ سواء كان جسديًّا أم عقليًّا لا يُنتِج أبدًا في حدِّ ذاته حالةً واحدةً مِن حالات الإعياء العقلي، أما أولئك الذين لا يعرفون إلا لهوَ الأسواق، ولهوَ القنوات والإنترنت، والطرَبَ مع الفنِّ الخادع والموسيقا المعاصرة، أو يتمتَّعون بالصحة والفراغ، فإنهم أشقياءُ لسببين:
الأول: أنهم يتوهَّمون السعادة، لكنهم لا يعرفون طريقها، فهُمْ في سرابٍ.
والثاني: لأنهم فقدوا لذَّة العطاء والبذل والجد والإنجاز وقَطْف الثمار، فقدوا متعة البناء والتعمير وعمارة الكون والحياة بما يُوافق المبادئ السامية والمعايير الراقية والحضارية، فقدوا متعةَ القراءة والانتفاع بأوقات الفراغ، لقد فاتهم شعورُ التسامي والتميُّز بأن يمنحوا الوجود مِن أنفسهم الجهد والتعب والنَّصَب، وأن يمنحوا أُسَرَهم الحبَّ والإخلاص والحرص والتضحية.
انطلقي أيتها المرأة المميَّزة بالعطاء والإنجاز والتعَب والبذل؛ فأنتِ تسيرين في طريق الإنسانية العُليا؛ حيث يكون الإنسان مخلوقًا للدنيا وللناس لا لنفسه، فلقد كان أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعليٌّ رضي الله عنهم رجالَ التعب الذي أثمر ثباتًا وقوةً للإسلام في بدايته، ثم أثمر في نهاية عهودهم أمةً حضاريةً وفتوحاتٍ بريَّةً وبحريةً، وانتشارًا عالميًّا للإسلام والمسلمين.
إنك تسيرين في طريقٍ أولُه بذلٌ وعطاءٌ، وآخرُه أن تكوني نبعَ الحياة، بل مركز حفظِ الحياة!
كوني إنسانةً واسعةً بسعة الكون والمجتمع والحياة، لا إنسانةً ضيقةً بضيق الجسد وحاجاته ودواعيه، ومنها القذر والقبيح والأكساح.
إنَّ اللاهيات وراء أنواع اللهو في الموضات واستهلاكهنَّ وزينتهنَّ - إنْ هنَّ إلا أُسارى أهوائهنَّ وشهواتهنَّ، لا عظيمات العقل والإرادة، إنهن مُستعبدات بأهوائهنَّ، غير مُتحكِّمات فيها، وخاضعات بأنفسهنَّ، لا مُستقلَّات بها، ومقبورات بأجسادهنَّ، لا أحياء فوقها، ولا حُكم لهنَّ إلا في حكم حواسِّهنَّ، فعملهنَّ هو ما يعشْنَ به، لا ما يعشْنَ مِن أجله، وينتهينَ في هوى مِن أهواء الحياة.
ستكونين عظيمةً حين تسعين لإثبات ذاتك في غيرك، ستكونين مقتديةً بنبيِّك الأعظم ورسولك الأكرم؛ حيث تدل صفاته على حقيقةٍ عظمى وهي: أن جميع خصائصه النفسية مرهفةٌ متيقِّظةٌ، فقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم متواصلَ الأحزان، ولكنها أحزان النبوة، تكسو الحياة فرح النفس بما فيها مِن فكرٍ وخشوعٍ وطُهرٍ وفضيلةٍ، كان دائمَ الفكر ليستْ له راحة؛ لأنه مُكلَّف أن يصنع الإنسان الجديد النقيَّ الطاهر صلى الله عليه وآله وسلم.
المصدر: شبكة الألوكة