الجمعة 19 رمضان 1445 هـ الموافق 29 مارس 2024 م
المثالية في التربية
الثلاثاء 15 جمادى الآخر 1438 هـ الموافق 14 مارس 2017 م
عدد الزيارات : 19281

 

المثالية في التربية


حين يعيش الإنسان في ميدان التنظير، ويحلق في أجواء الخيال، ويرسم صورا مثالية لأطفاله يستحيل تحقيقها في عالم الواقع.. فإنه يرتكب خطأ تربويا قد يصيبه بالإحباط وتثبيط الهمة، وقد تراوده فكرة الاستسلام عندما يجد نفسه أمام صعوبات، أو أمام تأخر تحسن الأمور كما كان يتأمل ، أو كما كان يتوهم بما يجب أن يكون عليه أطفاله تحت تأثير عاطفة الأبوة التي تتمنى أن يكون الأبناء أفضل الأبناء سلوكا وتربية ، بل ويؤثرونهم عليهم ، فكل من الأب والأم لا يريد أحدا في الدنيا أن يكون خيرا منه سوى أبنائه...
إن على الآباء أن يدركوا بأن الطفل يطور مهاراته عن طريق الممارسة على مراحل وخطوات صغيرة، وقد يتباطأ الطفل قليلا قبل أن يحقق تقدما ملحوظا إلى الأمام، وقد يشعر الوالدان في بعض المراحل بأن الطفل لا يتقدم في إتقان مهارة ما، وعليهم أن يتذكروا أن هذا أمر طبيعي يصيب معظم الأطفال ...وعلى الآباء أن يعترفوا أن الأطفال قد يرتكبون العديد من الأخطاء رغم كل الجهود التي يبذلونها في القيام بواجبهم التربوي، فليس من واجب الآباء أن يصلوا إلى درجة الكمال في تربية أبنائهم، ولا أن يتصوروا أطفالا بدون أخطاء ...
فالأم التي كثيرا ما تعاتب طفلها وربما تعاقبه على أخطاء لابد أن يقع فيها ما دام طفلا. فإنما ترتكب خطأ أكبر من خطأ طفلها، فحين يعبث ببعض الأثاث في المنزل، أو يعمد إلى آنية فيكسرها، أو يسيء إلى أحد إخوانه الصغار فتعاقبه أمه، وربما كانت العقوبة شديدة ...فإن هذه الأم تطلب من طفلها أن يكون منضبطا ومثاليا فلا يسيء إلى إخوانه، ولا يلعب بالتراب، ولا يعبث بالأثاث، ولا يرفع صوتا ولا يبكي ...فإنها تطلب محالا، وتعيش أوهاما، وقد نسيت أو تناست طفولتها..
والمعلم كذلك قد يرسم صورة مثالية للطالب، فيرى أنه ذاك الطالب الذي يلتزم بالأدب التام في استئذانه وحديثه وتعامله، فلا يسيء الأدب نهائيا مع زملائه، ولا يمكن أن يتأخر عن الواجب يوما ما، ولابد أن يفهم ما يلقى عليه فهما سليما، ولا يسوغ له أن ينشغل عن الدرس مهما كانت الصوارف، ولا أن يتأخر عن الحضور إلى الفصل ولا أن.. الخ ... من هذه القائمة التي كان يعجز المعلم نفسه عن تحقيقها يوم أن كان طالبا..
وهكذا فإننا حين نرسم لمن حولنا من الأطفال صورة مثالية ونحاسبهم عليها ونرى أن النقص عنها يعد قصورا في تربيتهم، فتأخذ مساحة الأخطاء أكثر من مداها الطبيعي الواقعي . وهنا مكمن الخطر في النظرة المثالية في التربية. التي قد تؤول إلى أن يلوم الإنسان نفسه ويشعر بالذنب، وبأنه مسؤول عن كل أخطاء وتصرفات طفله ...
وكان الأولى بالإنسان أن يقنع نفسه بما هو دون درجة الكمال الخالص، الذي ليس من طبيعة البشر، لأننا لا نعيش في عالم خيالي مثالي كامل، فذاك عالم الملائكة.
ولو ألقينا نظرة إلى سيرة المربي الأول صلى الله عليه وسلم لوجدناه يخبر أصحابه وهو يربيهم إلى أنهم لن يصلوا إلى منزلة لا يواقعون فيها ذنبا حيث قال: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم).
فإلى أمهاتنا وآبائنا ومعلمينا ...هذه هي التربية الفذة لمعلم البشرية تقوم على أساس الواقعية في التفكير، والإدراك للطبيعة البشرية، فكل ذلك يسهم في التربية الصحيحة الواقعية بدون جنوح في الخيال أو بعد عن الواقع.