الحمدُ لله ربِّ العالمين ، وأصلي وأسلمُ على المبعوث رحمةً للعالمين ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد:
خلق الله الخلق للابتلاء والاختبار، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } [الملك: 1، 2]، ثم أرسل لهم الرسل فمنهم من آمن ومنهم من كفر،وأبى الله إلا أن يختبر المعلنين للإيمان، فقال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [العنكبوت: 2، 3]،فتميز الخبيث من الطيب كما قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]، فثبت الثابتون بفضل الله ورحمته ثم بأساسهم المتين، وسقط المتساقطون بخذلان الله لهم فكانوا على شفا جرفٍ هارٍ فانهار بهم، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66 - 68].
ولقد ضرب الله مثلاً للثابتين والمتساقطين على الطريق فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 24 - 27]، فابتدأ الله سبحانه وتعالى بالتأصيل الحق وصفته، ثم بالتأصيل الباطل وصفته, ثم بثمرة كلا التأصيلين من الثبات وعدمه.
والكلمةُ الطيبةُ هي كلمة التوحيـد –لا إله إلا الله– وكلُّ دعوة لا تبنى على هذا الأصل العظيم، فهي باطلة فاشلة، لأن التوحيد هو أول واجب وآخر واجب.
وهذه الكلمة لها جذورها الثابتة في تربـة التقوى، فكان فرعها في السماء عالياً، لا يهتز للفتن, ولا تحركـه الأهـواء والمصالح، ولها ثمارها في كلِّ حين، في الحرب والسلم، في مرحلة الضعف والقوة، بخلاف تلك الشجرة الخبيثة التي لا جذور لها ولا أصول, فما أن تأتي أول فتنة، وإذ بها تجتث من فوق الأرض، فلا تقوى على الثبات والصمود.
فلا تستغربنَّ -أخي المسلم- أقوال وأفعال بعض المفكرين والقياديين والحكوميين فإن كلَّ إناء ينضح بما فيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ كَالْوِعَاءِ إِذَا طَابَ أَسْفَلُهُ طَابَ أَعْلَاهُ وَإِذَا فَسَدَ أَسْفَلُهُ فَسَدَ أَعْلَاهُ". رواه أحمد4/94، وابن ماجه4199، وصححه شيخنا الألباني في الصحيحة1734.
وقال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 58].
ولما كان التأصيل الحق –في نفوس الصحابـة– قوياً، ما كان فيهم مبتدعٌ ولا ضالٌّ، وقدموا الدين للناس غضاً طرياً، وأثمر الثمار اليانعة الطيبة، التي أكل منها الناس على اختلاف الطبقات منهم عبر الزمان والمكان.
قال شيخ الإسلام في "منهاج السنة النبوية" 6/376:" وأما الخلفاء والصحابة، فكلُّ خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإيمان والإسلام والقرآن والعلم والمعارف والعبادات، ودخول الجنة والنجاة من النار، وانتصارهم على الكفار وعلو كلمة الله فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة الذين بلغوا الدين وجاهدوا في سبيل الله, وكل مؤمن آمن بالله فللصحابة رضي الله عنهم عليه فضل إلى يوم القيامة".
وتأمل معي هذا الكلام بفهم دقيق وتفكير عميق، والذي قاله العلامة ابن القيم في كتابه الماتع "الفوائد" ص 275: "من أراد علو بنيانه فعليه بتوثيق أساسه وإحكامه وشدة الاعتناء به، فإن البنيان على قدر توثيق الأساس وإحكامه، فالأعمـال والدرجـات بنيان وأساسها الإيمان، ومتى كان الأساس وثيقاً حمل البنيان، واعتلى عليه، وإذا تهدَّمَ شيءٌ من البنيان سهلَ تداركه، وإذا كان الأساس غير وثيق لم يرتفـعْ البنيان ولم يثبت، وإذا تهدّمَ شيءٌ من الأساس سقطَ البنيانُ أو كاد.
فالعارف همته تصحيح الأسـاس وإحكامه، والجاهل يرفع في البناء عن غير أساس فلا يلبث بنيانه أن يسقط.
قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 109].
فاحمل بنيانك على قوة أساس الإيمان، فإذا تشعث شيء من أعالي البناء وسطحه، كان تداركه أسهل عليك من خراب الأساس.
وهذا الأساس أمران:
الأول: صحة المعرفة بالله وأمره وأسمائه وصفاته.
والثاني: تجريد الانقياد له ولرسوله دون ما سواه.
فهذا أوثق أساس أسسَ العبدُ عليه بنيانه، وبحسبه يَعتلي البناء ما شاء"انتهى كلامه رحمه الله.
فانظر –رحمني الله وإياك– ببصرك وبصيرتك إلى واقع المسلمين اليوم، تجد الانهيارات في العمل الإسلامي، عند ذلك تدرك حقيقة مرة، وهي أن هذا العمل لم يؤسس على تقوى من الله ورضوان من نصوص الوحي وفقه أئمة القرون المفضلة في الدين.
نور سورية