-1-
سقط القناع. قبل عام فاوض الإيرانيون ثوارَ حمص القديمة المحاصَرة، وتم الاتفاق بين الطرفين على صفقة الخروج الآمن للمقاتلين مقابل حفنة من الأسرى الإيرانيين. كان الإيرانيون يومَها على درجة كبيرة من الرقّة والدماثة فسمحوا لممثّلي النظام السوري بحضور جلسات المفاوضات، لحفظ الحد الأدنى من ماء الوجه، باعتبار أن النظام هو مَن يحكم سوريا في الظاهر. اليومَ تبخّر الحدُّ الأدنى من ماء وجه النظام وسقط القناع عن الوجه الإيراني الخبيث.
-2-
لم يجد الإيرانيون حاجة للتواري خلف النظام هذه المرة، فقادوا المفاوضات بأنفسهم. إيران التي تملك قوة عسكرية ضاربة وتملك السلاح النووي وتملك الثروة الهائلة، وتملك مع ذلك كله تراثَ ثلاثة آلاف عام من الخبث والدهاء الفارسي، إيران هذه لم تشكّ في نتيجة المفاوضات، فقدّمت عرضَ "استسلام مُهين" وظنّت أن المفاوضين سيوافقون عليه لا محالة. وكيف لا يفعلون وألفٌ من كرام المجاهدين وعشراتُ الآلاف من المدنيين العُزل أسارى في الزبداني ومضايا ومعرَّضون للهلاك؟
هتف أبطال الزبداني وهتف أحرار سوريا هتافَ الثورة الذي تردّد صداه في أروقة الزمان، الهتاف الخالد الذي ستنقله الأجيال للأجيال: "الموت ولا المذلة". جُنَّت إيران وجُنَّ النظام، وذهب الجبناء يستعرضون قوتهم على الضعفاء بعد إذا عجزوا عن منازلة الأقوياء.
ما الذي أثار النظام وإيران وماذا كانوا يريدون؟
-3-
يبدو أن سوريا بدأت بدفع ضريبة الاتفاق النووي المشؤوم. لم تعد إيران مضطرة للاستتار ولن تواجه مشكلة بعد اليوم في إظهار الحقيقة: "نحن نحكم سوريا كما نحكم لبنان والعراق". لم تفاوض إيران باسم النظام هذه المرة، بل كان خطابُها واضحًا ومباشرًا: "نحن نعطي ونحن نأخذ، نحن نخطط ونحن نريد". إيران تصرّ على انتزاع ورقة الضغط الكبيرة التي يملكها الثوار في الشمال: الفوعة وكفريا. الصفقة: مدينةٌ بمدينةٍ ومدنيون بمدنيين، البلدتان المحاصَرتان مقابل الزبداني ومضايا، ثمانية وعشرون ألفًا من شبيحة البلدتين مقابل ألف مجاهد وعشرات الآلاف من المدنيين.
-4-
لماذا تستميت إيران في إنهاء الصفقة؟ لأن عددًا (غير معروف) من عناصرها وعناصر الحزب عالقون في حصار الفوعة، ولأنها تريد أن تُنهي هذا الملف المزعج لتتفرغ للخطة التي بدأت بها من الزبداني ولن تنهيها إلا في دوما: استرجاع الريف الدمشقي كله، القضاء على الجيوب المتمردة وإعادتها إلى سلطان النظام.
ما هي فرصة إيران في إنجاز هذه الخطة؟ إنها فرصة كبيرة جدًا إذا لبثنا ساكنين ساكتين، كلٌّ ينتظر دورَه ليؤكَل منفردًا. وهي فرصة ضئيلة إذا تحركت الجبهات في معظم أنحاء سوريا، وفي جميع مناطق الريف الدمشقي على الخصوص، إذا تحركت معًا في وقت واحد، وهذا أمر ممكن رغم ما تكتنفه من صعاب.
-5-
لماذا يُقال هذا كله في مقالة عامة؟ لأن من حق السوريين أن يعرفوا ليقرروا وليدفعوا ضريبة القرار. نحن أمام خيار تاريخي: إما الاستسلام وضياع الثورة وسقوط المناطق المحاصَرة واحدةً بعد واحدة في وقت قصير لا قدّر الله، أو التحرك السريع لإنقاذ الثورة والدفاع عن الأراضي المحررة.
إذا اخترنا الطريق الأول فسوف نعود إلى سجن النظام الكبير أذلّةً مكسورين، وسوف ينتقي من بيننا المجاهدين والمعارضين فيُفنيهم في السجون، ثم يصبّ حقدَه على الباقين فيَسقيهم كؤوس الهوان، فهي خسارة الدهر، وهي هزيمة لن نتعافى منها في خمسين سنة! أما إذا اخترنا الصمود والقتال دفاعًا عن الدم والعرض والأرض والكرامة والحرية والشرف فإننا سندفع ثمنًا غاليًا، فإن التحالف الشيطاني (الأسدي الإيراني) بلغ مبلغًا كبيرًا من التوتر والإصرار، ولن يتردد في إحكام الحصار والقصف المجنون.
فهل نحن مستعدون للدفاع عن ثورتنا ولدفع ثمن الحرية الثقيل؟
-6-
كلمة قالها لي مجاهد من الزبداني أمس: الموت بالقصف أفضل من الاستسلام. إن موتًا معجَّلًا تحت الأنقاض خيرٌ لنا من موت بطيء في سراديب العذاب، وإن الصبر على القصف والجوع والحصار أحبّ إلينا من أن نتعفّن ويأكلنا الدود في معتقلات النظام.
لقد حمل شعبُ سوريا الأبيّ الكريم مشعلَ الحرية وقطع به الشوط الطويل، وثبث وصبر وقدّم من التضحيات ما عَجّبَ وحيّرَ أهلَ الأرض. لن يدَعه اليوم بعد كل الذي كان، لن يستسلم ولن يَهِنَ ولن يَلين؛ هذا الشعب العظيم حتمًا سيكمل الطريق.