كثيرا ما نستمع إلى آهات التقصير ، وكلمات الاعتراف بالذنوب ، وامنيات التوبة ، نسمعها من قائلها بصوت مرتفع يصحبه الأنين ، ويعلوه الخشوع ، وتتبعه الأمنية والدعاء ، إن أصحاب تلك الآلام يشكون من غفلتهم عن قيام الليل ، وتقصيرهم تجاه ختمات القرآن ، ودروس العلم .
كل ما سبق شىء حسن ، لكن الصادم في كثير من المواقف ، أن ترى صاحب تلك الأمنيات والآلام هو ذاته قابع في أتون المعاصي ، غارق في حمأتها ، مغرق في الظاهر منها قبل الباطن ، فإذا به يتألم لفوات أفعال الورعين ومستحبات الصالحين ، وهو غارق في أفعال العصاة المذنبين !
فالألم من التقصير شىء إيجابي ، والسعي للنموذج والقدوة شىء مطلوب والشعور الدائم بالتقصر في جنب الله سبحانه مبشر بخير ودافع إلى الأفضل ، لكن قد يقع التناقض المشين ، والانفصام الخطير في بعض النفوس ، فترى منها ما يستغرب منه ، وهاكم مثل سبق واستدللت به لكني اكرره ههنا لأهميته .
لقيني قبل أيام أحد التجار، فقال : أحمد الله على تجارتي الواسعة ورزقي المبارك ، وأنا أحاول أن أعمل الصالحات وأتصدق وغير ذلك ، ولكنني مقصر في كثير من الأعمال كقيام الليل وحضور دروس العلم ، وأنا أشعر أني اتراجع يوما بعد يوم برغم نيتي الطيبة ..
فقلت له تعال بنا نبدأ بالبداية الصائبة ، هل حرصت على تنقية قلبك من شوائب الشرك وآثامه ؟ هل ثبت قلبك على يقين الإيمان ؟ هل علمت حق الله عليك فسعيت في تطبيق ذلك ؟ هل علمت حق نبيك صلى الله عليه وسلم وحق دينك فقمت به؟
هل أنكرت على نفسك الآثام الكبرى فنقيت نفسك منها .. هل فعلت ذلك ابتداء ؟!
قال الرجل : ظننت من نفسي اني أفعل ذلك ، لكنني في الحقيقة كذلك مقصر في كل ما ذكرت !
قلت له : وكيف تقصيرك في باب الآثام الكبار إذن ؟
قال : سأصدقك .. للأسف فأنا مقيم على معصيتين ثابتتين منذ سنين لا استطيع تركهما ، الأولى هو غش بعض البضاعة التي أبيعها ( لكن صدقني كل التجار يغشونها ولست وحدي ) ، والثانية كثرة الكذب والحلف الكاذب في وعود رد الأموال وإعطائها بل الكذب في معظم الكلام الخاص بالتجارة !
قلت له : ههنا إذن لنقف ، أنت قابع على كبيرتين هما الغش والكذب ، ثم أنت تتألم من ضعف الالتزام بقيام الليل ، إن قيام الليل ياايها التاجر نعمة من الله ومنة ، يمن بها الله سبحانه على عباده ، وقديما قال ابن ادهم لمن شكى له عدم قيامه بالليل " قيدتك ذنوبك "
وكذلك فالصالحات الأخرى شىء عظيم كريم مرغوب فيه ، لكننا يجب علينا أن نصارح أنفسنا لنبني قلوبنا بناء صائبا ، لنحرص على تنقيتها من أمراضها وآثامها بينما نحن نهتم بالصالحات أيضا .
لنتبع السيئة الحسنة بصورة فورية سريعة ، فنندم على الذنب ونحدث الطاعة والاستغفار والتوبة .
لنقطع على أنفسنا طريق الإثم الذي اعتدناه ، ونسعى في كبته والندم عليه والتخلص منه ، مع حرصنا على الطاعات ، لننتظم ونثبت على الفرائض والواجبات مع سعينا للالتزام بالمستحبات.
في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر بقبرين ، فقال : إنهما ليعذبان , وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يتنزه من بوله ، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة " متفق عليه