من صور التعلق المذموم وأشكاله تعلق بعض الناس بالأسباب، فيلقي إليها بكل اعتماده، ويعلق عليها كلَّ آماله، حتى أدى بالبعض إلى نسيان التوكل، وترك تعليقَ قلبه بمسبب الأسباب، الله الذي أعطى الأسباب تأثيرها، ولولاه –سبحانه- ما كان لها أثر، ولا اطَّرَد للناس عادة.
وتبرز قيمة التعلق بالله تعالى في تحصيل آثار الأسباب؛ حين نتأمل قصصاً سلبَ الله فيها تأثير الأسباب، أو قلب تأثيرها.
من ذلك قصة إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- لما ألقى به قومه في النار، واعتمدوا على الأسباب، وظنوا أن النار قاضية عليه، غير أن الله تعالى – مسبب الأسباب- منع أثرها، بل جعلها برداً وسلاماً كما قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ، قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:68-70]. فانظر كيف أخلدوا إلى السبب واعتمدوا عليه، وانظر كيف اعتمد إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- على الله تعالى، ولم يتقطع قلبه فرقا بتقطع الأسباب، بل لجأ إلى الله تعالى، وحَسْبَلَ مفوضا أمره إلى الله-سبحانه فعن ابن عباس-رضي الله عنهما- أنه قال: "حسبي الله ونعم الوكيل" قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] (البخاري، الجامع الصحيح، رقم: [4563]).
قالت طائفة من العلماء: "الالتفات إلى الأسباب: شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا: نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية: قدح في الشرع، وإنما التوكل، والرجاء: معنى يتألف من موجب التوحيد، والعقل، والشرع". وبيان ذلك أن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه، والاستناد إليه، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا؛ لأنه ليس مستقلًا، ولا بد له من شركاء، وأضداد، ومع هذا كله: فإن لم يسخِّره مسبِّب الأسباب: لم يسخَّر، وهذا مما يبين أن الله رب كل شيء، ومليكه، وأن السموات، والأرض، وما بينهما، والأفلاك، وما حوته: لها خالق، مدبِّر، غيرها" [ابن تيمية ، مجموع الفتاوى،8/ 169].
وما دام ذلك كذلك " فعلى العبد أن يكون قلبه معتمدًا على الله، لا على سببٍ من الأسباب، والله ييسر له من الأسباب ما يصلحه في الدنيا والآخرة، فإن كانت الأسباب مقدورة له، وهو مأمور بها: فَعَلَها، مع التوكل على الله، كما يؤدي الفرائض، وكما يجاهد العدو، ويحمل السلاح، ويلبس جُنَّة الحرب، ولا يكتفي في دفع العدو على مجرد توكله بدون أن يفعل ما أُمر به من الجهاد، ومَن ترك الأسباب المأمور بها: فهو عاجز، مفرط، مذموم "[المصدر السابق (8، 528- 529 )].
وقد صحح هذا المفهومَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين عَلَّم الرجلَ حُسْنَ التوكل مع بذل الأسباب، حين سأله سائل: "يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟" قال : «اعقلها وتوكل» (الترمذي، الجامع الكبير، رقم:[2517])، وهذا من جملة المفاهيم التي انحرفت عند بعض طوائف الأمة، فبدلاً من أن تكون طاقةً دافعةً إلى العلم والعمل، صارت عند بعضهم تُكَّأَةً يتكئون عليها، ويعلقون عليها ضعفهم ويبررون بها عجزهم، مثل ما حدث لمفهوم التوكل فصار تواكلاً، ومثله ما حدث لمفهوم القضاء والقدر قديماً وحديثاً، حتى قال بعضهم عن المحتل: جاء بقضاء الله وقدره، ويخرج بقضاء الله وقدره! وتركوا بذلَ الأسباب التي هي أيضاً لا تخرج عن قضاء الله وقدره، ولذلك قال الإمام الملهم عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه لما قالوا له عن عدم دخول أرض الطاعون: " أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله" (البخاري، برقم:[5728]، ومسلم، برقم:[2218]، في صحيحيهما).