عانت الأمة في هذا العصر من الفوضى الفقهية وتسور كل من هب ودب للتصدر للإفتاء في العظام. كما تشهد الساحة الشامية إضافة لكل الأزمات فوضى فقهية عارمة وصلت إلى درجة تضارب الأحكام في مسائل منها ما هو من الواضحات ومنها ما هو من النوازل.
في هذا البحث المتواضع نحاول أن نقف على أهم الأسباب التي أودت إلى حالة العبث في الإفتاء وإخراج الفتاوي.
مفتو الأحزاب جعلوا من الفتوى سلماً يتهارشون عليه؛ أيهم يسبق للتصدر والتسور، ولم يعلموا أنهم يخضون في دماء وأعراض وأموال سيحاسبون عليها.
وعليه لا تقبل فتاوى المنظرين المتحزبين ضد خصومهم من الجماعات الإسلامية كما كان علماء السلف يسقطون طعن الأقران بعضهم ببعض.
وقد كان السلف رضي الله عنهم يتدافعون الفتوى. عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركتُ عشرين ومائة من الأنصار يُسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول".
وفي رواية: "ما منهم من يحدث بحديث، إلا وَدَّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا".
وهنا نذكر بعض أسباب الفوضى الفقهية التي تعصف في الساحة الشامية:
1- من أسباب اضطراب الفتوى لدى البعض:
سوء التقدير في إناطة التكليف بالاستطاعة ويظهر ذلك
بالحكم على العاجز بالقدرة فيكلف ما لا يستطيع فيقع في العنت والحرج وربما يفضي الى التهلكة
أو يحكم على القادر بالعجز فيفي إلى التحلل من التكليف والتمييع للأحكام.
2- من أسباب اضطراب الفتوى لدى البعض:
الخلل في تقدير الضرورة عند إباحة المحرم إما تقديراً زائداً يفضي إلى الإفراط والدخول في الشبهة والحرام أو تقدير قاصر يفضي إلى التفريط ووقوع الحرج، كالذين أفتوا الجريح بالغسل لما أصابته الجنابة فقتل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلوه قتلهم الله.
3- غياب التصور الصحيح والتام للواقع الذي يفتي به:
بسبب تكوين التصور من رؤية جماعة ترى الأمور من منظار الحزبية وتحاول أن ترسم واقعاً يتناسب مع احتياجاته الحزبية.
ولما كان الحكم على الشيء فرع عن تصوره سيدخل الخلل على الحكم بسبب عدم التصور الصحيح أو المنقوص من خلال تضخيم الواقع أو التهوين منه فيأتي الحكم مضطرباً.
4- من أسباب اضطراب الفتوى لدى البعض:
تقيد المصلحة حيث تكون المصلحة مرسلة لم يقيدها الشارع ، وإرسال المصلحة حيث تكون المصلحة مقيدة من الشارع
وهذا كثير في باب السياسة الشرعي، كمن يجعل تسمية الإمام بخليفة المسلمين مسألة توقيفية، أو التحجير في كثير من الأحكام التي هي محل نظر وتقدير للمصالح.
5- من أسباب اضطراب الفتوى عند البعض:
إعطاء الحكم في المسالة دون النظر إلى الذرائع التي تفتحها، مما يجلب من المفاسد أكثر مما ير جى من المصالح فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة أن يؤذي الكفار المحاربين يوم الخندق وقال له ( لا تذعرهم علينا )
6- من أسباب اضطراب الفتوى عند البعض:
إعطاء الحكم في المسالة دون النظر الى الأولويات، و هل هذا التكليف هو الأولى أم يقدم عليه غيره عند التزاحم وعدم إمكان فعل الاثنين معاً كترتيب الأولوية بين الحج وجهاد الدفع.
7- من أسباب الاضطراب في الفتوى عند البعض:
النظر في المسألة وإعطاء الحكم دون النظر في المآل وتقدير العواقب التي تدرك بالاقتران والاطراد
فقد يصح الحكم من حيث الاستنباط والاستدلال ولكنه يفضي إلى مفاسد أكثر من المصالح المرجوة في ما يؤول إليه
8- من أسباب اضطراب الفتوى عند البعض:
تحقيق مناط العلة في الفرع ( حكم غير منصوص عليه ) قبل تنقيح مناط العلة في الأصل ( الحكم المنصوص عليه )
فيجعل من الحكم الشرعي دائراً مع علة غير مؤثرة فيضطرب القياس.
من أراد أن يفتي في مسألة عليه تنقيح المناط باستبعاد العلل التي لا تصلح لربط الحكم بها وتخريج العلة التي يناط بها الحكم من الأصل ومن ثم تحقيق المناط في الفرع.
9- من أسباب اضطراب الفتوى عند البعض:
تغليب النظر في المقاصد على النظر في ظواهر الفروع
أو تغليب النظر في ظواهر الفروع على النظر في المقاصد
فلا نضيع المقاصد بالإغراق في ظوا هر النصوص ولا نضيع الفروع بالإغراق في المقاصد
10- ومن أسباب اضطراب الفتوى عند البعض:
تعليل الحكم التعبدي أو توقيف الحكم المعلل ، الأمر الذي يفضي بالمفتي إلى الابتداع،
لذلك يجب على المفتي إذا عرضت عليه المسألة أن ينظر هل هي من التعبديات فلا يقاس عليها غيرها ولا تعلل
أم أنها حكم معلل يدور مع علته ويقاس عليه فرع إذا اشترك معه بالعلة.
11- ومن أسباب اضطراب الفتوى عند البعض:
العدول عن العلة الظاهرة المنضبطة المؤثرة في الحكم إلى علة خفية غير منضبطة لا تؤثر في الحكم.
تعرّف العلة بأنها الوصف الظاهر المنضبط المؤثر في الحكم لا بذاته بل بجعل الشارع، فربط الحكم بالعلل يؤدي إلى ضبط الأحكام واستقرار أوامر التشريع ووضوحها. لذلك لم يربط الشارع قصر الصلاة بالمشقة لأنها علة خفية غير منضبطة وربطها بالسفر لأنها علة ظاهرة ومنضبطة قابلة للقياس.
لذلك عندما ننيط الحكم بالعلة الخفية غير المؤثرة ونترك العلة الظاهرة المؤثرة يقع الخلل في قاعدة الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
عندما نبحث عن علة قتال داعش لا نتوقف عند ظاهر اعتدائهم على الأموال والدماء بل يجب أن نبحث عن دافعهم لذلك؛ وهو ظاهر غير خفي تكفير للمسلمين بغير حق يرفع العصمة ويستبيح الدم والمال والعرض
وهذه تجعلنا نعدل عن وصفهم بالبغاة إلى وصف أدق وهو الخارجية والمروق وهذا يترتب عليه تحديد نوع القتال
الذي نقاتلهم به هل هو قتال خوارج للاستئصال أم أنه قتال رد صائل لرد عاديتهم فحسب.
ألم يعلم الذين يصدرون الفتاوى ويتلطفون بكلاب أهل النار أنهم ما صالوا علينا إلا بعد أن كفروا المجاهدين واستباحوا الدماء وهذا فعل الخوارج؟!.
لكل قتال غاية ينتهي إليها في جهاد الدفع رد على المعتدي، وفي جهاد الطلب حتى يكون الدين كله لله .
ولكن في قتال الخوارج حتى الإبادة والاستئصال.