عقيدة المسلم (8)
الركن السادس من أركان الإيمان:
الإيمان بالقَدَر
القَدَر: تقدير الله تعالى للكائنات، حسبما سبق به علمه، واقتضتهُ حكمته.
والإيمان بالقدر يتضمَّنُ أربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن الله تعالى عالمٌ بكل شيء، جملةً وتفصيلًا، أزلًا وأبدًا.
الثاني: الإيمان بأن الله تعالى كتب ذلك في اللوح المحفوظ، وفي هذين الأمرين يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70].
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ -قَالَ- وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) أخرجه مسلم.
الثالث: الإيمان بأن جميع الكائنات لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى، قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} [القصص: 68]، وقال: {وَلَوْ شَاء اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} [النساء: 90]، وقال: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112].
الرابع: الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة لله تعالى بذواتها، وصفاتها، وحركاتها، قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62]، وقال سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].
والإيمان بالقدر لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية، وقدرة عليها؛ لأن الشرع والواقع دالان على إثبات ذلك له.
أما الشرع: فقد قال الله تعالى في المشيئة:{فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} [النبأ: 39]، وقال في القدرة:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن: 16].
وأما الواقع: فإن كل إنسان يعلم أن له مشيئة وقدرة، بهما يفعل، وبهما يترك، ويفرق بين ما يقع بإرادته كالمشي، وما يقع بغير إرادته كالارتعاش، لكنَّ مشيئة العبد، وقدرته واقعتان بمشيئة الله تعالى، وقدرته لقول الله تعالى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28، 29]، فالله خلق الإنسان وجعل له اختيارا وعلم جل شأنه بعلمه السابق الذي أحاط بكل شيء ما سيختاره كل واحد من خلقه فقدره عليه وكتبه عنده ولم يجبره على شيء فاختيار العبد سواء كان خيرا أم شرا واقع بمشيئة الله التابعة لعلمه بما سيكون من أفعال عباده؛ ولأن الكون كله ملك لله تعالى؛ فلا يكون في ملكه شيء بدون علمه ومشيئته، قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 29_ 31].
الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية:
الإيمان بالقدر لا يمنح العبد حجة على ما ترك من الواجبات، أو فعل من المعاصي، وعلى هذا؛ فالاحتجاج بالقدر على ذلك باطل من وجوه، منها:
الأول: أنَّ الله –تعالى- أمر العبد ونهاه، ولم يكلفه إلا ما يستطيع، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ
مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، ولو كان العبد مجبرًا على الفعل؛ لكان مكلَّفًا بما لا يستطيع الخلاص منه، وهذا باطل.
الثاني: أنَّ قَدَرَ الله –تعالى- سرٌّ مكتومٌ لا يُعْلَمُ به إلا بعد وقوعه، وإرادة العبد للفعل غير مبنيَّةٍ على علم منه بقدر الله، وحينئذ تنتفي حجته بالقدر؛ إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه.
الثالث: أن المحتجَّ بالقدر على ما تركه من الواجبات، أو فعله من المعاصي، لو اعتدى عليه شخص فأخذ ماله، أو انتهك حرمته، ثم احتجَّ بالقدر، وقال: لا تلمني فإنَّ اعتدائي كان بقدر الله؛ لم يقبل حجته، فكيف لا يقبل الاحتجاج بالقدر في اعتداء غيره عليه، ويحتج به لنفسه في اعتدائه على حق الله تعالى؟!
الرابع: ما رواه البخاري ومسلم – واللفظ للبخاري - عَنْ عَلِيٍّ بنِ أبي طالبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ كُنَّا جُلُوسًا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ، وَقَالَ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ أَوْ مِنْ الْجَنَّةِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ أَلَا نَتَّكِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الْآيَةَ [الليل: 5]) أخرجه البخاري ومسلم.
و(يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ): يضرب الأَرض بطَرَفه.
وفي لفظ لمسلم: (فكل مُيَسَّرٌ لما خلق له)، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل، ونهى عن الاتكال على القدر.
ثمرات الإيمان بالقدر:
للإيمان بالقدر ثمرات جليلة منها:
1_ الاعتماد والتوكل على الله تعالى، عند فعل الأسباب، بحيث لا يعتمدُ على السبب نفسه؛ لأن كل شيء بقدر الله خالق الأسباب ومقدرها.
2_ أن لا يُعْجَب المرء بنفسه عند حصول مراده؛ لأن حصوله نعمة من الله تعالى، بما قَدَّره من أسباب الخير، والنجاح، وإعجابه بنفسه، ينسيه شكر هذه النعمة.
3_ الطمأنينة، والراحة النفسية بما يجزى عليه من أقدار الله تعالى؛ فلا يقلقُ بفوات محبوب، أو حصول مكروه؛ لأن ذلك بقدر الله الذي له ملك السموات والأرض، وهو كائن لا محالة، وفي ذلك يقول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [سورة الحديد: 22، 23]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) أخرجه مسلم.
وجاء في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: (وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ) أخرجه الترمذي، وأحمد.
4_ الإقدام والشجاعة والصبر والرضا.