هل أنت نِصف بارٍ، أم نِصف عاق؟
أرسل لي قريبي يوم الاثنين الماضي رسالة يقول فيها (ماتت أمي اليوم والصلاة في جامع ...).
تأثرت لهذه الرسالة أشد التأثير؛ لعلمي بعظيم حب قريبي لأمه، وحرصه على برها وطاعتها، ذهبت للمقبرة للقيام بالواجب، كانت الجموع كثيرة، كان قريبي مع بعض الرجال في وسط القبر يجهز المكان لأمه الغالية، يضع الحجار الكبيرة، ويرصُّ الأحجار الصغيرة، في مشهد مؤثر تتفطر له القلوب كمداً !
بالأمس القريب كان يدني منها اللحاف الدافئ، ويختار لها الوسادة اللينة، وهو اليوم يتقرب لله بهذا التراب الذي يجمعه لها، وبهذه الأحجار التي يرصها حول قبرها !
هو الآن يُقدِّم لأمه أقصى ما يقدر عليه من صنوف البر والطاعة؛ لأنه يعلم أنها بعد لحظات يسيرة سوف تغيب عن الأنظار، سوف يتسابق الناس في إخفائها عنه، لن يبقى لذكرى هذه الأم إلا قبراً يتساوى مع مئات القبور التي حوله.
لن يرى كما اعتاد وجهاً بساماً وعينًا متلهفة!
لن يسمع دعاءً صادقاً وشوقاً عارماً !
وكل الذي سيسمعه عند زيارته صدى دعائه: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين".
لا أخفيكم أنني شعرت بألم يطعن قلبي حين لمحت الأخ الأصغر لقريبي وهو يبكي، كان يحاول إخفاء دموعه؛ لأن من يبكي في المقبرة لابد أن توجه له السهام، ويناله من التوبيخ وطلب الصبر !
رجعت للحي، وقبل أن أدلف للشارع الموصل للبيت توجهت للمطعم القريب من منزلي، أبو عبد الله صاحب المطعم سألني عن سبب خروجي المبكر من العمل، فأخبرته أين كنت وعن وفاة أم قريبي وذهابنا لدفنها فقال: سبحان الله، أغلق على أولادها اليوم باب للجنة!
اخترقت هذه الكلمات كل حواجز الغفلة واستقرت في قلبي، وجدت لها رغم بساطتها مكاناً خالياً فاستوطنت فيه!
قبل لحظات إذن أغلق باب للجنة كان مشرعاً مفتوحاً ينادي العابرين هو الآن مغلق!
خلقت عبارات (أبو عبد الله) في داخلي عشرات الأسئلة التي سبحت في فضائي ولم تجد لها أجوبة!
يا ترى هل استمعت لنداء هذا الباب الذي ظل يناديني عشرات السنين؟
هل أنا من الذين بروا أمهاتهم؟
هل أنا من الذين قدموا رغبات الأم على ما سواها؟
هل أنا من الذين استشعروا هذه المنة من الله تعالى؟
هل أنا أغضبتها في يوم من الأيام؟ هل نامت في يوم من الأيام وهي ساخطة عليّ؟
هل أنا بار...أم أنا عاق؟
عصفت بي هذه الأسئلة طوال يومي ذاك!
مشكلتنا أننا إما نصف بار أو نصف عاق!
لا نرفض طلبات الأم والأب ولكن نقدم لهم (بعض) الذي يريدون!
لا نقول لهم (أف) ولكن نقول لهم (طيب) (بعدين)!
عندما يطلبون منا شيئاً، لا نسهر على راحتهم، ولكن إذا طلبوا المستشفى أوصلناهم !
لا نسخر من آرائهم ولكن نقدم رأينا على رأيهم!
وهكذا .. أشعرنا أنفسنا أننا بارين بهم، وفي الوقت نفسه أبعدنا الهاجس الذي يطاردنا بأننا عاقين بهم، وهكذا عشنا في منطقة ليست خضراء مُورِقة، وليست كالحةً معتمة، ولن ندرك هذا الخطأ الفادح إلا بكلمات تشبه كلمات (أبو عبد الله): أغلق اليوم باب للجنة لن يفتح بعد ذلك أبداً !
وكما قال الشيخ الطنطاوي: "لقد فقدت أنس قلبي يوم فقدت أمي، فاستمتعوا بجمال الحياة مع أمهاتكم قبل فوات الآوان!"
رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا.. رب احفظ لنا أمهاتنا، وارزقنا برهم أحياءً وأمواتا.