طبيعة الحياة كَدر؛ يصيب الناس فيها الآلام والمصائب والمشكلات والبلايا يومًا بعد يوم، حتى إنه لا يكاد امرؤ أن تصفو له حياة في غير كدر .
وتختلف انطباعات الناس وردود أفعالهم تجاه ذلك الكدر؛ فمنهم من يقنط, ومنهم من ييأس, ومنهم من يبأس, ومنهم من ينكسر, ومنهم من يقعد, ومنهم من يعاق, وكذلك منهم من يقوم من كبوته ويتخذ عثرته دافعًا له لخطوة نحو هدفه .
" الضربة التي لا تقسم الظهر تقويه", حكمة صحيحة, فما من إنسان يستطيع القيام من كبوته والتغلب علي كدره، والصبر على محنته إلا ويخرج منها أقوى مما دخل, فقد صارت الآلام لا تؤلمه وصار الظلام لا يخيفه .
يحكى أن أحد الملوك قد سأل حكيمًا أن يعلمه جملة يقرؤها إذا كان حزينًا سُرَّ, وإذا كان مسرورًا لم يبالغ في فرح .. فقال له الحكيم: اكتب: "هذا الوقت سوف يمضي " ...
وصدق الحكيم, فإن أوقات الآلام ما تلبث أن تمضي, وساعات المحن عن قريب تنقضي, والعسر ما يلبث أن يصير يسرًا, والحزن عما قليل يصبح سعادة وحبورًا .
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح: 5-6], قال السلف الصالح : لن يغلب عسر يسرين .
ومن قديم قال العرب: "الغَمَراتُ ثم يَنْجَلِنَّه، ثم يَذهَبنَ ولا يَجِنَّه" ويقصدون بها أن الأزمات عما قليل تنجلي, فإذا ما انجلت ذهبت أيامها ولم تعد, فكيف إذا يبأس المؤمن من لحظات الآلام وقد علم أنها لحظات اختبار؟! وكيف ينكسر في مواقف المصائب وقد علم أن ملائكة الرحمن تكتب ردود فعله؟!
مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على امرأة وهي تبكي ابنًا لها بجوار قبره, فَقَالَ لَهَا: (اتَّقِ اللَّهَ، وَاصْبِرِي), فقالت : إليك عني, إنك لم تصب بمصيبتي، ولم تكن تعرفه, فقيل لها إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذهبت إلى بيته ولم تجد عليه بوابين, فقالت: لم أعرفك, قال: (إنَّما الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى).
إنها قاعدة أخرى جيدة جدا لنا وللجميع عند المصائب والآلام والأحزان, الصبر عند الصدمة الأولى, وفي اللحظة الأولى يتبين الصادق من الدعي .
وكجائزة للصادقين الصابرين: علمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- ذاك الدعاء الكريم المبارك إذ قال صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]، اللهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَجَرَهُ اللهُ فِي مُصِيبَتِهِ، وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا).
قال العلماء: "إنَّ هذا الدعاء لم يُخلف أبدًا مع داع دعاه من قلبه بإخلاص", وحكى أهل العلم عنه حكايات طويلة، هي في مجموعها جائزة حقيقية لمن صبر عند الصدمة الأولى واسترجع ودعا ربه .
بل إن الصالحين لَيُقلِبون لحظات الألم والكدر رقيًا وسموًا وروحانية, إنهم يتخذونها لحظات عبودية, فيعلمون أنه لا ينجيهم من مصائبهم إلا الله, وأنه ليس قادر على أن يذهب الآلام إلا الله, وإنه ليس بمقدور أحد أن يمنح القوة أمام البلاء إلا الله سبحانه .
فعندئذ عادوا إليه, ولجأوا إليه, فتراهم سُجَّدًا, رُكعًا, بُكيًا, بين يدي ربهم, يتقربون ويتذللون ويتوبون ويدعون آناء الليل وأطراف النهار .
فتصير لحظات الآلام بالنسبة لهم مطهرة ومنجاة، وتوبة وتنقية وتصفية, حتى إن أحدهم كانت تصيبه المصيبة فيبتسم ويُسر، ويخرج إلى الناس بثوبٍ حسنٍ وعطر حسنٍ، وبسمة تعلو وجهه, شاكرًا حامدًا .
وكيف إذا لا يصبر المؤمن في لحظات البلاء وعنده ساعات السجود, ودقائق يمرغ وجهه لله ذلاً وانكسارًا, وهو يعلم أن ربه الرحيم يراه, فَيُسبِغَ عليه رحمته, ويُرخي عليه سِتره الجميل, فيرفع درجته, ويُثبت أقدامه, وتَمرُّ عليه لحظات الألم فاقدةً معناها الدنيوي الصعب, مرتديةً معناها الأُخروي العذب, كيف لا، وهو بين يدي ربه الرحيم؟.