اصطفى الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته، فجعلهم أفضل الأمم، واختصهم بخاتم الكتب، وأكمل الشرائع، وأتم عليهم الدين، وبذلك جعلهم وسطاً بين الأمم؛ أي خيارها وأجودها؛ ليكونوا شهداء على الأمم يوم القيامة.
ثم كانت وسطية الإسلام سِمة عامة في كل تشريعاته، فالإسلام وسط بين الأديان السابقة يتجلى فيها الكمال ووضع الآصار والأغلال التي كانت على الأمم الماضية، ويتجلى فيها قبل ذلك كله توحيد الله سبحانه في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وعبادته وحده لاشريك له، وإخراج الناس من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق، بعد أن حُرِّفت هذه العقيدةُ الصحيحةُ في الكتب المتقدمة.
وهو وسط بين الفِرَق التي وقعت في الانحرافات العديدة بين الإفراط والتفريط، بين الغلو والجفاء، فأهل السنة والجماعة متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله، وما اتفق عليه {السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان}، ومقتفون سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي بينها بقوله: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).
ومن أهم سمات وسطية الإسلام:
- السماحة ورفع الحرج:
فالوسطية والاعتدال هي سمة الشريعة الإسلامية بنص القرآن، قال الله – جل وعلا – : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] وقال أيضا : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } [ المائدة : 6 ] .
- العدل :
فهي شريعة العدل في الأحكام والتصرفات؛ لأن غير ذي الوسط لا بد أن يكون في سلوكه إما إلى تفريط وإما إلى إفراط.
- موافقة العقل السليم :
فإن الانحراف عن الجادة بغلو أو جفاء لا يكون معه العيش مستمرًا وَفْق مصالح الناس، فمصالح الناس تقتضي عقلاً ومنطقًا أن يكون هناك منهج متوسط يجتمعون عليه ، ويدافعون عنه.
- الاعتماد على العلم والبعد عن الأهواء :
فالوسطية والاعتدال يبرآن من الهوى ويعتمدان على العلم من نصوص الكتاب أو السنة ، وفق أقوال واجتهادات أهل العلم الراسخين في العلم.
- مراعاة القدرات والإمكانات :
سواء كانت قدرات الأفراد أو قدرات المجتمع أو قدرات الدولة الخاصة بالبلد ، أم القدرات المتعلقة بالأوضاع العالمية .
فهي تراعي القدرات والإمكانات ، فليس صاحب الوسطية مُعجِّزًا للناس في طلباته ، أو ذاهبًا إلى خيالات في آرائه وتنظيراته .
- مراعاة الزمان والمكان وطبيعة الناس :
فالزمن يتغير ، والناس أيضًا يحتاجون إلى تجدد باعتبار الزمن وباعتبار التغير ، فمحافظتهم على المنهج الوسطي يقتضي أن يكون هناك مراعاة لاختلاف الأزمنة ولاختلاف الأمكنة ولاختلاف الناس .
- الالتزام بأحكام الدين:
فمن شادّ هذا الدين وقع في الغلو وانحرف، ومن أعرض عنه وقع في التقصير وأثم.
قال صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَه) . ويشادّ بمعني : يغالب . فمَن غالب الدين ، فشَقّ على نفسه ، فسيكون منتهى أمره إلى الانقطاع ويُغلَب .
و(مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنَ الْآخَرِ، إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا، كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ).
وفي هذا العدد سنلقي الضوء على جانب من جوانب الانحراف في الدين، ألا وهو جانب الغلو. تبصرة وذكرى وبياناً لوسطية الأمة.