لم يزل دعاة الصدق على مرِّ الزمان يجمعون على أن صلاح سرائرهم هو السرُّ الأوحد في نجاح دعوتهم، ولن تكون لكلماتهم صدى في آذان من يسمعها إن لم يكن لها سابقة صدق في قلب قائلها .
روي أن قاصًا كان بقرب محمد بن واسع فقال: مالي أرى العيون لا تدمع، والقلوب لا تخشع، والجلود لا تقشعر، فقال محمد بن واسع: "يا فلان! ما أرى القوم أُتوا إلا من قِبَلِك، إنَّ الذكر إذا خرج من القلب وقع على القلب".
واعلم يقينًا ياصاحبي أنَّ الفِصام النكد بين مقالك وفعالك هو العقبة الكؤود التي ستعرقل سيرك في الدعوة إلى الله تعالى، وقد تصل إلى مرحلة لا تستطيع حينها أن تقوم من عثراتك المتتابعة .. سيخنقك غبار الزيف الذي كنت تعيش فيه، وتغذي منه من هم بين يديك .. ثم .. ثم لن تستطيع أن تقف على قدم الدعوة مجددًا، ياللخذلان حينها !!
فبالله أخبرني أنى لمتربٍ أو مدعو يُدعى إلى الخشية والخوف من الله وعين داعية لم تترطب قط بمائها !!
وكيف لك أن تؤثر في سامعيك فتجعلهم يقوموا الليل إلا قليلاً، وأنت ما زلت تساوم نفسك على صلاة الفجر !!
وإلا ما الذي حمل صالحي الأمة من سلفها وخلفها إن تصدروا لإصلاح العامة، أن يعودوا أولاً إلى نفوسهم فيصلحون ما فسد منها، ثم يُقبلوا على أمر غيرهم .
ورحم الله ابن تيمية لما دعاه الخليفة ليناقش فرقة (البطائحية) يقول: "وما علمت كيف أردُّ عليهم، لكني أعددت لذاك اليوم عُدته!! فقمت الليل كله!! أدعو وأتبتَّل حتى أجرى الله الحق على لساني ودحر الله خرافاتهم" .
إن تلك الركعات والدمعات .. لهي وقود الداعية في دعوته، وسِرُّ قبول الناس له، ومن حمل هذا الزاد بلَّغه الله منزله الذي قصد، ولو بعد حين .
فالقلوبُ عالم سماوي بعيدٌ كل البعد عن عوالم السفول الأرضية، التي تتأثر بالماديات فحسب، فلا تتأثَّر تلك المُضغ التي أوجدها الله في بني آدم بشيء كما تتأثر بمادة (القبول)، التي ينشرها الله لك بين خلقه، فعلى قدر النور الذي اقتبسته من نور الله كان إشعاعك أقوى، وتأثر الناس بدعوتك أعم وأكبر .
وما أحسن كلام ابن القيم في الوابل الصيب حيث قال: "وإنما تقرّ أعين الناس بك على قدر قرة عينك بالله، فمن قرَّت عينه بالله قرت به كل عين ... ".
ومن تأمَّل كتاب الله تعالى وفتش في معانيه وجد هذا المعنى مصلوبًا في عين الشمس، اقرأ إن شئت: {قُمِ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا} ثم {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}، فكان لزامًا على الحمل الثقيل من ليل طويل يعين على حمله !!
يقول سيد في ظلاله : "ولا بدَّ لأي روح يُراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية، لابد لها من عُزلة وخلوة وانقطاع عن شواغل الأرض" باختصار.
ثم علَّق على تلك الآيتين فقال: "إنَّ قيام الليل والناس نيام، والاتصال بالله، وتلقِّي فيضه ونوره، والأُنس بقربه، إنَّ هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل، والجهد المرير الذي ينتظر من يدعو بهذه الدعوة، ويُنير القلب في الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من التَّيه في الظُّلمات الحافَّة بهذا الطريق الطويل".
يا صاحبي! إن أنت لم تأخذ حظك الوافر من العبادة لتكاد تُنسى مع زخم الحياة وتتابع المشاغل -الدعوية- ليكاد يغيب عن ذهنك أنك تدعو إلى الله .. إلى الله فقط، فتستحيل دعوتك إلى صناعة !.
يقول ابن الجوزي في صيد خاطره: "وعلى هذا أكثر الناس، صور العلم عندهم صناعة، فهي تُكسبهم الكِبر والحماقة، وقد حكى لي بعض المُعتبرين عن شيخ أفنى عمره في علوم كثيرة ثم فُتن في آخر حياته بفسق أصرَّ عليه وبارز الله به ".
فكيف بك وقد أفنيت عمرك دعوة إلى الله ثم.. !
هل فقهت الآن أنَّ القضية ليست خبرات تربوية، وزيادة معلومات فحسب .. والله لو قرأت مئات الآلاف في كتب التربية، وأنت أنت لم يتغيَّر في إيمانك شيء، فلن تُغيِّر في القلوب شيئًا .
"فمن السهل أن تُؤلِّف كتابًا في التربية، ومن السهل أن تضع منهجًا لها، ولكن هذا المنهج سيبقى حبرًا على ورق، سيظل معلقًا في الفضاء مالم يتحول إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض، مالم يتحوَّل إلى بشرٍ يُترجم بسلوكه وأفعاله وتصرفاته مبادئ المنهج، عندئذٍ فقط يتحوَّل المنهجُ إلى حقيقة، يتحوَّل إلى حركة، يتحول إلى تاريخ" (محمد قطب-منهج التربية الاسلامية).
أخي المربي: إن لم تكن قادرًا على إصلاح نفسك، فكيف ستكون قادرًا أن تزرعَ ثمرة وجذور شجرك خواء!
أخي المربي: إنَّ الله جُعل ناموسًا في هذه الحياة لا يتغيَّر ولا يتبدل، فاقصر الطريق، وإئت البيوت من أبوابها، فإن كنت محقًا في دعواك أنك تدعو إلى الله فالله الله بعلاقتك معه.
أخي المربي : ليس المقصود أن نترك الدعوة بحجة (مرض السريرة) حاشا وكلا.
فإن لم يعظ في الناس من هو مذنب *** فمن يعظ العاصين بعد محمد !!؟
فإن كان المرض سرطان قاتلاً فتنح قليلاً عن مراتع الدعوة، أصلح مرضك، ثم انضم لركب الدعوة .
أخي المربي: اعلم أنَّ الله استعملك على ثغر من ثغور الإسلام، فاتَّق الله فيه، وإلا والله يُنزع منك ويسد عنك بابًا إلى الجنة !
أخي المربي: لا يغرنَّك بهرج الدعوى، وظاهر العمل الصالح؛ فإنَّ في قلبي وقلبك من مداخل إبليس اللعين، فاستعن بالله بركعتين في جنح الليل تنير لك يومك الدعوي .
أخي المربي: ارجع إلى كتاب الله واقرأ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}.
ثم ابك على نفسك واستغفر لذنبك ..
وإنا لله وإنا إليه راجعون على حالنا .