تزوَّجَتْ بعد اعتقال زوجها لظنِّها وفاته، ثم خرج مِن السجن حيًّا، فما الحكم؟
السؤال:
أحد الأصدقاء أُفرج عنه مؤخرًا من سجن "صيدنايا" بعد اعتقال دام أكثر من سبع سنوات، واعتقد أهلُه أنه قد مات، وكانت زوجتُه قد تزوجت برجلٍ آخَر وأنجبت منه، فما العمل الآن؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإنَّ زواجَ المرأةِ بعد غياب زوجِها وفَقدِه مدَّةً طويلةً، له صورٌ وأحوالٌ يختلف الحكمُ باختلافِها، وفيما يلي بيانُ ذلك:
أولًا:
إذا كانت الزوجةُ بعد طول غيابِ زوجِها وفَقْدِه: رفعتْ أمرَها للقاضي الشرعي طلبًا لفسخ النكاح بسبب تضرُّرِها مِن غيابه، وحَكَم القاضي بفسخِه دفعًا للضرر عنها: ففي هذه الحال يكون عقدُ الزواج الأول مفسوخًا، وزواجُها الثاني صحيحًا، ولا يترتب عليها شيءٌ بعد خروجِه مِن السجن، ونسأل الله أن يعوضَه خيرًا.
قال ربيعةُ الرأي -كما في المحلى لابن حزم-: "إذا فَرَّقَ السُّلطانُ بينهما: فلا سبيلَ للأوَّلِ عليها، ولا رَجْعةَ، دخَل بها أو لم يدخُل".
ثانيًا:
إذا تزوجت المرأةُ بعد فَقدِ زوجها، دون تربُّصِ المدّةِ الشرعية التي تُضرب لامرأة المفقود، أو حُكْمِ القاضي بوفاته، أو حُكْمِه بفسخ النكاح، أو خبرٍ بوفاته مِن ثقة معتدٍّ به: ففي جميع هذه الأحوال يكون النكاحُ الثاني باطلًا، ويلزم فسخُه حالًا، سواء رجع زوجُها الأول أو لم يرجع؛ لأنها لا تزال زوجةً للأول، ولم يُحكم بفسخِ نكاحِها أو وفاةِ زوجِها حتى يحلَّ لها أن تتزوجَ مِن غيره.
ثالثًا:
إذا تزوَّجت امرأةُ المفقودِ الذي لا يُدرى مصيرُه، بعد شيوعِ خبر موتِه، أو حُكْمِ القاضي بوفاته، أو تربُّصِها المدّةَ الشرعية، ثم رجع زوجُها الأول بعد عقد الثاني عليها وقبل دخوله بها: فإنَّ العقد الثاني باطلٌ ومفسوخٌ، وهي زوجةُ الأول في قولِ جمهور أهل العلم والمعتمد في المذاهب الأربعة.
ففي "مِنَح الجليل شرح مختصر خليل": "فإن جاء المفقود قبل دخول الثاني: رُدَّت له".
وقال الماوردي في "الحاوي الكبير": "فإن لم يكن دخل بها: فُرِّق بينهما، ولا شيء عليه، وحلَّت للأول من وقتها".
وقال البهوتي في "كشاف القناع": "إن كان قبل الدخول: رُدَّت إلى الأول".
رابعًا:
إذا رجع زوجُها الأول وتبيَّنت حياتُه بعد عقد الثاني عليها ودخوله بها، فهل ترجع له، أو تبقى مع الزوج الثاني؟ للعلماء أقوالٌ في هذه المسألة، أشهرُها ثلاثة:
الأول: أنّ المرأةَ ترجع لزوجِها الأول؛ لأنَّ الزواجَ الثاني قام على أساسٍ تَبَيَّن بطلانُه، ولذا فهي لا تزال زوجةً للأول.
وثبت هذا القول عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو مذهب الحنفية والشافعية.
الثاني: أنّ المرأةَ تبقى مع زوجِها الثاني؛ لأنَّه تزوَّجها بعقدٍ شرعيٍّ بُني على أُسُسٍ صحيحةٍ في الظاهر، فصار مُبطِلًا للعقدِ الأول، ولا وجهَ لإبطالِ العقدِ الثاني إذا تزوَّجها وهو غيرُ عالمٍ بحياةِ زوجِها الأول.
وهو مذهبُ المالكية، وقال الإمام مالك في "الموطأ": "وذلك الأمرُ عندنا".
الثالث: تخييرُ الزَّوجِ الأوَّل، فإنْ شاء رُدَّت إليه زوجتُه، وإن شاء أقرَّ النكاحَ الثاني واستردَّ المهرَ الذي دفعه، فإن اختار المرأةَ، وجب عليها أن تعتدَّ مِن الثاني قبل أنْ ترجعَ للأوَّل.
وثبت هذا القولُ عن عددٍ مِن الصحابة، منهم عمرُ بنُ الخطاب وعثمانُ بنُ عفان رضي الله عنهما، وهو مذهبُ الحنابلة.
واختار بعضُ علماءِ الحنابلة أنْ يكون التخييرُ للمرأة، فإذا اختارت أحدَهما رَدَّت على الآخر مهرَه، كما نقله ابنُ مفلح في الفروع.
ولكلِّ قولٍ مِن هذه الأقوال حُجَجُه ودلائلُه مِن الأثر والنظر، وهي مبسوطةٌ في كتب الخلاف والفقه المقارن، والمسألةُ ليس فيها نصٌّ حاسمٌ مِن القرآن الكريم أو السنة النبوية الصحيحة.
قال ابنُ تيمية في "مجموع الفتاوى": "ومِن أَشْكَلِ ما أَشْكَلَ على الفقهاءِ مِن أحكام الخلفاء الراشدين: امرأةُ المفقود؛ فإنه قد ثبت عن عمرَ بنِ الخطاب أنه لما أجَّل امرأتَه أربعَ سنين وأمرَها أن تتزوجَ بعد ذلك؛ ثم قَدِمَ المفقودُ خيَّره عمرُ بين امرأتِه وبين مَهرِها، وهذا مما اتبعه فيه الإمامُ أحمدُ وغيرُه.
وأمّا طائفةٌ مِن متأخري أصحابِه فقالوا: هذا يخالف القياس، والقياسُ أنها باقيةٌ على نكاحِ الأول، إلا أنْ نقول: الفرقةُ تنفذ ظاهرًا وباطنًا فهي زوجةُ الثاني.
والأول قول الشافعي، والثاني قول مالك".
وقال ابنُ هبيرة في كتابه "اختلاف الأئمة العلماء":
"واختلفوا فيما إذا قَدِم الزَّوجُ الأوَّل وقد تزوجت بعد التربُّصِ؟
فقال أبو حنيفة: العقدُ باطل، وهي زوجة الأوَّل...، وتعتدُّ مِن الثاني، وتُرَدُّ إلى الأوَّل.
وقال مالكٌ: إن كان الثاني دخل بها فهي زوجتُه، ويجب عليه دفعُ الصَّداقِ الذي أصدقها إلى الأول، وإن كان الثاني لم يدخل بها فهي للأول ...
وقال أحمدُ: إن كان لم يدخل بها الثاني فهي للأوّلِ، وإن كان قد دخل بها فالخيارُ للأول بين إمساكِها ودفعِ الصَّداق إليه، وبين تركِها على نكاحِ الثاني وأخذِ الصَّداقِ الذي أصدقها منه".
خامسًا:
نظرًا للخلاف بين علماء المذاهب الأربعة في هذه المسألة، وتعدد الأقوال والآراء فيها، وتعلُّقِها بعدَّة أطرافٍ مختلفين، فإنَّ الفتوى وترجيحَ أحدِ الأقوال لن يحسم الأمر.
ولذلك فإنَّ الذي ننصح به الأطرافَ الثلاثةَ (الزوج الأول، والزوج الثاني، والمرأة)، أنْ يُحلَّ الأمرُ بالتفاهم بينهم والتراضي، دون التنازع والتخاصم، على النحو التالي:
1-إذا كان الزوجُ الأول لا يرغب بعودة زوجتِه له بعد زواجِها مِن غيره: فننصحُه بطلاقِها، ثم بعد عِدَّة الطلاق، يُجدَّد عقدُ نكاحِها مِن الزوج الثاني.
2-وإذا كانت المرأةُ راضيةً بحياتها مع زوجِها الثاني غيرَ راغبةٍ بتركه والرجوع إلى زوجها الأول: ففي هذه الحال ننصحهم بإجراء "مخالعة رضائية"، فيُعاد له المهرُ الذي دفعه مقابلَ فراقِها، ثم بعد عِدَّة الخُلع يُجدَّد عقدُ نكاحِها مِن الزوج الثاني.
3-وأما إن كان الزوجُ الأوَّلُ راغبًا بها متمسّكًا بعودتها إليه، وهي لا تزال راضيةً به راغبةً فيه: ففي هذه الحال، ننصح الزوجَ الثاني أنْ يطلّقَها، ثم تعتدَّ منه، وترجع لزوجها الأول بعقدٍ جديدٍ.
وفي هذه الإجراءات: بُعدٌ عن الإشكالات، وعملٌ بالاحتياط، وخروجٌ مِن خلاف العلماء.
فإن لم يتوافق الأطرافُ على أحد هذه الحلول، فمَرجِعُهم للقضاء الشرعي، للفصل بينهم في هذه المسألة الخلافية، ويكون حكم القاضي فاصلًا، وملزمًا، ورافعًا للخلاف، وإن لم يتيسر الرجوع إلى القضاء الشرعي فيمكن اللجوء إلى التحكيم.
علمًا أن أولاد المرأة من الزوج الثاني هم أولادٌ شرعيون، ونسبهم ثابتٌ إلى أبيهم.
وختامًا:
نؤكّد على وجوبِ تريُّث المرأة قبل الإقدام على الزواج في حال غيابِ زوجِها وفَقدِه حتى تثبت وفاتُه بطريقٍ محقَّق، وأنّ الأسلمَ لها والأبعدَ عن الإشكال: اللجوءُ للقضاء طلبًا لفسخِ النكاح قبل زواجِها الثاني حتى تتجنب مثلَ هذه الإشكالات.
ونسأله سبحانه أن يفكَّ أسر المأسورين، ويطلق سراحَ المعتقلين بغير حقٍّ، وأن يجمع شمل أُسَر الغائبين، وأن يوفق المسلمين للاحتياط لدينهم وعرضهم.
والله أعلم
لمزيد الاطلاع على بعض الأحكام المتعلقة بالمفقود ينظر الفتوى: