السؤال:
عندما ينسحبُ تنظيمُ (الدَّولة) مِن بعض المناطق يُقبَض على بعض المقتنعين بأفكارهم مِن الرّجال الذين لم يشاركوا في القتال، وعلى بعض النِّساء والأطفال منهم، وقد يكون بعضُهم مشاركًا في جرائم التّنظيم بالقتال أو التّجسّس أو غيره، فكيف يكون التّعاملُ الشّرعيُّ معهم؟
________________________________________________________________________________________
الجواب:
الحمدُ لله، والصّلاة والسّلامُ على رسولِ الله، أمّا بعدُ:
فمَن اعتنق فكرَ الخوارجِ ولم يشاركْهم في حربهم على المسلمين ماديًا ومعنويًا فيُناصَح حتى يرجعَ عن فكره وغلوِّه، أمّا النّساءُ والأطفال فلا يؤخَذون بجريرة أوليائهم، ولا يُعامَلون معاملةَ أسراهم ولو كانوا على فكرهم وعقيدتهم في تكفير المسلمين بغير حقّ، بل يُعمل على استصلاحهم قدرَ المستطاع، ومَن كان منهم مشاركًا في القتال أو الجرائم ضدّ المجاهدين وعموم المسلمين فيُعاقَب بحسب جريمتِه.
وتفصيلُ ذلك فيما يلي:
أولًا: مَن اعتنق عقيدةَ الخوارجِ الفاسدة -مِن الرّجال أو النِّساء- وكان مِن دعاتهم المدافعين عنهم، المصرّحين بتكفير المسلمين والمجاهدين، المحرّضين على قتالهم، ولم يمكن دفعُ شرّه بالمناظرة والاستتابة وغيرها، فإنه يجوز لولي الأمر أو مَن يقوم مقامَه مِن الهيئات القضائية إزالةُ ضرره ولو بالقتل، ما لم يترتَّب على ذلك مفسدةٌ أعظمُ منها.
قال الجويني في كتابه "الغياثي": "فيتحتَّم على الإمامِ المبالغةُ في منعِه ودفعِه، وبذلُ كنهِ المجهودِ في رَدعِه ووَزْعِه، فإنَّ تركَه على بدعتِه، واستمرارَه في دعوتِه يَخْبِط العقائد، ويخلِط القواعد، ويجرُّ المحن، ويثير الفتن، ثمّ إذا رسخت البدعُ في الصُّدور، أفضت إلى عظائم الأمور، وترقَّت إلى حلِّ عِصامِ الإسلام".
وجاء في "التّمهيد" لابن عبد البر: "رأى مالكٌ قتلَ الخوارجِ وأهلِ القدر مِن أجل الفساد الدّاخل في الدّين، وهو مِن باب الفساد في الأرض، وليس إفسادُهم بدون فسادِ قطّاع الطّريق، والمحاربين للمسلمين على أموالهم، فوجب بذلك قتلُهم، إلا أنّه يرى استتبابتَهم لعلّهم يُراجعون الحقَّ، فإنْ تمادوا قُتلوا على إفسادِهم، لا على كفرٍ" .
وقال ابنُ تيمية في "مجموع الفتاوى": "فأمّا قتلُ الواحدِ المقدور عليه مِن الخوارج؛ كالحرورية والرّافضة ونحوهم: فهذا فيه قولان للفقهاء، هما روايتان عن الإمام أحمد، والصّحيحُ أنه يجوز قتلُ الواحد منهم، كالدّاعية إلى مذهبِه، ونحو ذلك ممّن فيه فسادٌ ... لأنّ هؤلاء مِن أعظم المفسدين في الأرض".
وقال ابنُ فرحون المالكي في "تبصرة الحكام": "وأمّا المفرّقُ لجماعةِ المسلمين فإنّه يُستتاب، فإنْ تاب، وإلا قُتل .
وقال ابنُ عابدين في حاشيته "رد المحتار": "فأمّا في بدعةٍ لا تُوجب الكفرَ فإنه يجب التّعزيرُ بأيِّ وجهٍ يمكن أنْ يمنعَ مِن ذلك، فإنْ لم يمكنْ بلا حبسٍ وضربٍ يجوز حبسُه وضربُه، وكذا لو لم يمكن المنعُ بلا سيفٍ إن كان رئيسَهم ومقتداهم جاز قتلُه سياسةً وامتناعًا".
وأمّا مَن اقتنع بفكرهم المنحرف مِن الرّجال البالغين، ولكن لم يشارك في جرائمهم مباشرةً أو معاونةً، ولم يحرّض على استهداف المجاهدين فإنه يُناقَشُ ويحاورُ ويُعلّم كما فعل علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم مع الخوارج حتى رجع بعضُهم.
فإن كان اعتناقُه شديدًا ولم يقبل المناصحةَ، وخيف مِن ضرره فإنه يُحبس ويُستمرّ في مناقشته وتعليمه حتى يترك عقيدتَه الفاسدة.
وقد سُئل عمرُ بن عبد العزيز عن رجلٍ أُخذ مِن الخوارج في خراسان فكتب إليهم: "إنْ كان جرح أحدًا فاجرحوه، وإن قتل أحدًا فاقتلوه، وإلا فاستودعوه السّجنَ، واجعلوا أهلَه قريبًا منه حتى يتوبَ مِن رأي السّوء" أخرجه عبد الرزاق.
وفي "مِنحة السُّلوك في شرح تحفة الملوك" للعيني: " ولا تُسبى ذراريهم، ولا تُغنم أموالهم؛ لأنهم معصومون في الدّماء والأموال، ولكن يُحبَسوا، حتى يتوبوا، فتردُّ عليهم بالإجماع".
وأمّا ما قرّره بعضُ أهلُ العلم مِن عدم التّعرُّض لمن اعتقد رأيَ الخوارج: فهذا إنّما يكون حيثُ لا جماعةَ لهم يتحزبون لها ويناصرونها، ويُظهرون العداءَ للمسلمين، والتّحريض على قتالهم.
قال الماوردي في "الحاوي الكبير": "فإذا اعتقد قومٌ رأيَ الخوارج، وظهر معتقدُهم على ألسنتهم، وهم بين أهلِ العدل غيرُ منابذين لهم، ولا متجرئين عليهم: ترُكوا على حالهم، ولم يجز قتلُهم ولا قتالهم، ولم يؤخذوا جبرًا بالانتقال عن مذهبهم، والرّجوع عن تأويلهم، وعُدل إلى مناظرتهم، وإبطال شبهتهم بالحجج والبراهين وإن كانوا عليها مقَرّين؛ فقد أقرهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه قبل أن يعتزلوه..".
وقال الإمامُ أحمدُ كما في "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" للمرداوي: "الحروريةُ إذا دَعوا إلى ما هم عليه، إلى دينِهم فقاتلهم، وإلا فلا يُقاتَلون".
ثانيًا: الأصلُ في النّساء والأطفال أنَّهم ليسوا مِن أهل القتال والحرب، فلا يجوز قتلُهم، ولا الاعتداءُ عليهم، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} [البقرة: 190].
وأخرج ابنُ جرير الطّبري في تفسيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال في تفسير الآية: "لا تقتلوا النّساءَ، ولا الصّبيانَ، ولا الشّيخَ الكبيرَ، ولا مَن ألقى إليكم السَّلَم وكفَّ يدَه، فإنْ فعلتم هذا فقد اعتديتم".
وقال النووي في "شرح صحيح مسلم": "أجمع العلماءُ على تحريم قتل النِّساء والصِّبيان إذا لم يقاتلوا".
وإذا كان هذا في الكفّار المحاربين فهو في حقّ الخوارج المسلمين أولى.
ودلت النصوص الشرعية على استثناء حالات يجوز فيها قتل نساء وأطفال الأعداء المحاربين مِن الكفّار، ولتفصيل هذه الحالات وأدلتها تُراجع فتوى: (حكم قتل نساء وأطفال الأعداء مِن باب المعاملة بالمثل)
ثالثًا: مَن لم يَظهرْ تلبّسُه بفكر الخوارج مِن النّساء والأطفال فالأصلُ فيهم السّلامة، فلا يُتعرّض لهم إلا بالتّوجيه والرِّعاية وحسن المعاملة، وأمّا مَن ثبت اعتناقُه لفكرهم، إلا أنّه لم يشارك في القتال، ولا في الإضرار بالمسلمين بالتّجسّس وغيره فلا يُتعرّض لهم بالعقوبة، ولا يؤاخَذون بجرائم رجالهم، كما قال سبحانه: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، بل ينبغي أن يُعزَلوا في مكان لائق، ويناصَحون، ويُعلّمون أحكامَ الإسلام وأخلاقَه، وتُوضّح لهم حقيقةُ منهج التّنظيم، وجرائمه في حقّ المسلمين عمومًا، والمجاهدين خصوصًا، مع بيان الحكمِ الصّحيح في المسائل التي يحرص التّنظيمُ على تضليل النّاس وتلويث أفكارهم بها، فمَن حسُنت توبتُه وظهر صلاحُه منهم ُخلّي سبيله.
ويَتأكّد أخذُ الحيطة والحذر مِن تصرّفات مَن يُظهِر التوبةَ، ويُطلَق سراحُه مِن الخوارج عمومًا بما فيهم النّساء والصّبيان، فلا يُمكّنون مِن الخروج مِن البلاد، أو التواصل مع غيرهم مِن المشكوك في توبتهم، أو تولي أمور القضاء أو الدّعوة ونحوها؛ فقد عُهد عن هؤلاء الخوارج استحلالُ الكذب والغدر بالمسلمين، وثبت تجنيدُ عددٍ منهم في مناطق المجاهدين، إضافةً إلى ندرة مَن يصدُق منهم في توبتِه بعد تشبُّع قلوبهم بهذا المنهج المنحرف.
رابعًا: إذا شاركت المرأةُ البالغةُ مع الخوارج في القتال والأعمال الحربية جاز قتالُها وقتلُها، وكذا إذا باشرت أو تسبّبت في قتل المسلمين، وقد عُرف في تاريخ الخوارج اشتراك النّساء في القتال، واشتُهرت بعضُ نسائهم بقيادة الجيوش كغزالة الحرورية.
قال الماوردي في "الحاوي الكبير": "إذا قاتل مع أهل البغي نساؤهم وصبيانهم وعبيدهم كانوا في حكمهم ..، ولأنّ الإمامَ في دفعهم عن المسلمين جارٍ مجرى الدّافعِ عن نفسِه، وله دفعُ الطّالب ولو بالقتل، ولو كانت امرأةً أو صبيًا، كذلك المقاتل مِن البغاة يُدفع ولو بالقتل، ولو كان امرأةً أو صبيًّا".
وأمّا مَن شاركت في العمل معهم في بعضِ إجرامهم مِن القبض على المسلمات أو تعذيبهنّ مِن غير أن يؤدّي ذلك إلى القتل، أو كانت مِن دعاتهم فإنها تُعاقب عقوبةً تتناسب مع جريمتها، ويقدّر ذلك القضاةُ وأهلُ العلم .
فالمرأةُ المكلّفةُ محلٌّ للمؤاخذة بما يترتب على جرائمها مِن عقوباتٍ شرعية كالقصاص والحدود والتّعزيرات، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178]، ومَن باشرت قتلَ المسلمين أو شاركت أو تسبّبت فيه مع تكفيرها لهم فقد استوجبت العقوبةَ الشّرعيةَ المقرّرة في ذلك.
خامسًا: مَن اشترك مِن الأطفال دون سنِّ البلوغ في القتال فإنّه يُقاتَل، ولو أدّى إلى قتلِه.
وأمّا مَن ارتكب منهم شيئًا مِن الجرائم الجنائية كالقتل، أو التّجسس، أو غير ذلك، ثمّ قُبض عليه فإنّه لا يُقتل بهذه الجرائم، بل يُعزل ويعلّم أمور الدِّين، ويقدَّم له ما يحتاج مِن توجيهٍ ورعايةٍ نفسيةٍ وغيرها؛ فغيرُ البالغ مِن الصّبيان ليس محلًا لإيقاع العقوبات الشّرعية.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال صلى الله عليه وسلم: (رُفع القلم عن ثلاثة: عن النّائم حتى يستيقظ، وعن الصّغير حتى يكبَر، وعن المجنون حتى يَعقل أو يُفيق) أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
قال الكاساني في "بدائع الصنائع": "الصَّبيُّ والمعتوه الذي لا يَعقل ... يباح قتلُهما في حال القتال إذا قاتلا حقيقةً ومعنىً، ولا يُباح قتلُهما بعد الفراغ مِن القتال إذا أُسرا وإنْ قَتلا جماعةً مِن المسلمين في القتال; لأنَّ القتلَ بعد الأسرِ بطريق العقوبة، وهما ليسا مِن أهل العقوبة، فأمّا القتلُ في حالةِ القتال فلدفع شرِّ القتال، وقد وُجد الشرُّ منهما فأُبيح قتلُهما لدفع الشّرِّ، وقد انعدم الشرّ بالأسر، فكان القتلُ بعدَه بطريق العقوبة، وهما ليسا مِن أهلها".
وقال ابنُ قدامة في "المغني" : "لا خلافَ بين أهلِ العلم في أنّه لا قصاصَ على صبيٍ ولا مجنونٍ..، ولأنّ القِصاصَ عقوبةٌ مغلظةٌ فلم تجب على الصّبي وزائل العقل كالحدود، ولأنهم ليس لهم قصدٌ، فهم كالقاتل خطًا".
وجاء في "الموسوعة الفقهية": "يتّفق الفقهاءُ على أصلِ قاعدة: أنّ مَن لا يجوز قتلُه مِن أهل الحرب -كالنِّساء والشّيوخ والصّبيان والعميان- لا يجوز قتلُه مِن البغاة ما لم يُقاتلوا؛ لأنَّ قتلَهم لدفع شرِّ قتالهم، فيختص ذلك بأهلِ القتال. وهؤلاء ليسوا مِن أهل القتال عادةً، فلا يُقتلون إلا إذا قاتلوا ولو بالتّحريض؛ لوجود القتال مِن حيث المعنى، فيُباح قتلُهم إلا الصّبي والمعتوه، فالأصلُ أنهما لا يَقصدان القتلَ، فيحلُّ قتلُهما حالَ القتال إن قاتلا حقيقةً أو معنىً".
وقد وردت آثارٌ عن السَّلف تُقرّر أنَّ عمدَ الصّبي خطأٌ، وأنه لا يُقتصُّ منه بذلك، ومنها قولُ الزُّهري: "مضت السُّنّة أنّ عمدَ الصّبيّ خطأٌ" أخرجه عبد الرزاق، وقول النّخعي: "عمدُ الصّبي وخطؤه سواء" أخرجه ابن أبي شيبة.
سادسًا: عدمُ إيقاع العقوبات الشّرعية على أطفال الخوارج لا يعني عدمَ تأديبهم وزجرهم على ما بدر منهم مِن جرائم وتجاوزات، بل ذلك مهمٌّ لاستصلاحهم، وتقويم ما اعوجّ مِن فكرهم ودينهم مِن خلال نصحِهم وإرشادِهم.
وينبغي أنْ تُنوّعَ أساليبُ إصلاحهم بين اللّين والشِّدّة، والتّرغيب والتّرهيب، والحوار والمناقشة، ولا يُقتصر فيها على الشّدّة لئلا يُفضي إلى استعمالهم الكذب في ادعاء التّوبة، وربّما تمسّكهم بما هم عليه.
قال ابنُ خلدون في "مقدّمته": "ومَن كان مرباه بالعَسْف والقَهر مِن المتعلّمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهرُ -أي تمكّن منه وأذلّه-، وضَيَّق عن النّفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحملَ على الكذب والخُبث، وهو التّظاهر بغير ما في ضميره؛ خوفًا مِن انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكرَ والخديعةَ لذلك، وصارت له هذه عادةً وخُلُقًا".
فإذا ظهرت عليه آثارُ الصّلاح والتّوبة مِن هذا الفكر المنحرف فيُخلّى سبيلُه، مع الاحتياط كما سبق، وإن بلغ مع إظهار الإصرار والتّمسُّك بما هو فيه مِن انحراف وسلوك، أو ترجّح عدمُ صدقه في توبته منها على الرغم مِن بذل الجهد، وطولِ المدة: فحكمُه حكمُ أسرى الخوارج، فيُعرَض على القضاء للنّظر في حاله.
ومَن خُشي شرُه مِن الأطفال كالمدرّبين على القتل أو التّفجير فإنه تُتَّخذُ الإجراءاتُ الكفيلةُ بحجزهم عن الشرِّ مِن حبسٍ وتأكّدٍ مِن صلاحِ حالِه ونحو ذلك .
نسأل اللهَ سبحانه أن يكفّ شرَّ الغلاة، وعدوانَ الطّغاة، وأنْ يهدي ضالَّ المسلمين، ويبصّر جاهلَهم، وينصر مجاهدَهم، ويوفّق الجميع لما يحبُّ ويرضى.