الخميس 19 جمادى الأول 1446 هـ الموافق 21 نوفمبر 2024 م
إسقاط الحيعلتين من أذان أهل الأعذار
الاثنين 6 شعبان 1441 هـ الموافق 30 مارس 2020 م
عدد الزيارات : 52011
إسقاط الحيعلتين من أذان أهل الأعذار
 

إسقاط الحيعلتين من أذان أهل الأعذار

 

الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأفضلُ الصَّلاة وأتمُّ التسليم على نبينا محمَّدٍ خاتمِ النَّبيين وإمام المرسلين، المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

ثبت في السنة النبوية الصحيحة الترخيص للناس بأداء الصلاة في بيوتهم عند وجود العذر من مطر ونحوه.

والمشروع للمؤذن في هذه الحال أن يقول: (صلوا في رحالكم) أو (صلوا في بيوتكم) أو (الصلاة في الرحال)، ونحوها من الألفاظ.

وللعلماء ثلاثة أقوال في موضع قولها من الأذان:

-بعد الفراغ منه.

-قبل الحيعلتين أو بعدهما.

-بدلًا عن الحيعلتين.

والأقرب -والله أعلم- أنها تقال بعد الفراغ من النداء، وأن إسقاط الحيعلتين من الأذان عملٌ غير مشروع، وبيان ذلك في نقاط:

أولاً: عمدة هذا الباب حديثان:

الأول: حديث ابن عمر.

أخرجه البخاري (632) من طريق عبيد الله بن عمر، قال: حدثني نافع، قال: أذَّن ابن عمر في ليلةٍ باردةٍ بضجنان([1])، ثم قال: صلوا في رحالكم، فأخبرنا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر مؤذنًا يؤذن، ثم يقول على إثره: (ألا صلوا في الرحال) في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر.

وفي رواية مسلم (698): "فقال في آخر ندائه: ألا صلُّوا في رحالكم، ألا صلُّوا في الرحال، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة أو ذات مطر في السفر، أن يقول: ألا صلُّوا في رحالكم".

الثاني: حديث ابن عباس.

أخرجه الشيخان من طريق إسماعيل ابن عُليَّه، قال: أخبرني عبد الحميد صاحب الزيادي، قال: حدثنا عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: "إذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم"، قال: فكأن الناس استنكروا ذاك، فقال: "أتعجبون من ذا، قد فعل ذا من هو خير مني، إنَّ الجمعة عَزْمَة، وإني كرهت أن أحرجكم فتمشوا في الطين والدَّحض".

وهذا اللفظ (فلا تقل: حيَّ على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم) تفرد به ابن عليَّه، بينما رواه غيره بلفظ مختلف.

ففي رواية حماد بن زيد عن عبد الحميد: "فأمر المؤذن لما بلغ حيَّ على الصلاة، قال: قل: الصلاة في الرحال"([2]).

وكذا أخرجه الشيخان من طريق حمَّاد، عن أيوب وعبد الحميد صاحب الزيادي وعاصم الأحول، عن عبد الله بن الحارث، وفيه: "فلما بلغ المؤذن حيَّ على الصلاة، فأمره أن ينادي: الصلاة في الرحال"([3]).

ورواه عبد الرزاق في المصنف عن معمر عن عاصم بلفظ: "إذا بلغت حي على الفلاح فقل: ألا صلوا في الرحال"([4]).

وبه يتبين أن رواية ابن عُليَّه هي الوحيدة التي قد يفهم منها ترك الحيعلتين.

 

ثانياً: حديث ابن عمر صريح في أنها تقال بعد الفراغ من الأذان.

قال الحافظ ابن حجر عنه: "صريح في أن القول المذكور كان بعد فراغ الأذان"([5]).

وأما حديث ابن عباس الذي يستدل به على إسقاط الحيعلتين فليس صريحا في ذلك:

1-فأغلب رواياته لا تدل على إسقاطها، بل تدل على أنه يقول (صلوا في رحالكم) قبلهما أو بعدهما.

" فأمر المؤذن لما بلغ حي على الصلاة، قال: قل: الصلاة في الرحال".

"فلما بلغ المؤذن حي على الصلاة، فأمره أن ينادي: الصلاة في الرحال".

"إذا بلغت حي على الفلاح فقل: ألا صلوا في الرحال".

وليس فيها ما يشير إلى إسقاط الحيعلتين.

2- زيادة ابن عُليَّه: (فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم) تحتمل ترك الحيعلتين مطلقًا، أو ترك قولها بعد الشهادتين مباشرة.

والروايات الأخرى تبين أن قول ابن عباس (فلا تقل حي على الصلاة) ليس المراد منه عدم قولها مطلقا، وإنما مراده أن لا يقولها بعد الشهادتين، بل يقول (صلوا في بيوتكم) ثم يكمل باقي الأذان.

ولذا بوَّب عليه الإمام البخاري بقوله: "باب الكلام في الأذان"، فعدَّ هذه الزيادة من باب الكلام ضمن الأذان.

قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: "والذي فهمه البخاري: أن هذه الكلمة قالها بعد الحيعلتين أو قبلهما، فتكون زيادة كلام في الأذان لمصلحة، وذلك غير مكروه كما سبق ذكره؛ فإن من كره الكلام في أثناء الأذان إنما كره ما هو أجنبي منه، ولا مصلحة للأذان فيه.

وكذا فهمه الشافعي؛ فإنه قال في كتابه: إذا كانت ليلة مطيرة، أو ذات ريحٍ وظلمة يستحب أن يقول المؤذن إذا فرغ من أذانه: (ألا صلوا في رحالكم) فإن قاله في أثناء الأذان بعد الحيعلة: فلا بأس.

وكذ قال عامة أصحابه، سوى أبي المعالي؛ فإنه استبعد ذلك أثناء الأذان.

وأما إبدال الحيعلتين بقوله: (ألا صلوا في الرحال)، فإنه أغرب وأغرب"([6]).

وقال ابن عبد البر: "وأما الكلام في الأذان، فإن أهل العلم اختلفوا في إجازته وكراهيته، فقال منهم قائلون: إذا كان الكلام في شأن الصلاة والأذان: فلا بأس بذلك، كما روي عن ابن عباس أنه أمر مؤذنه في يوم المطر أن يقول بعد قوله حي على الفلاح: ألا صلوا في الرحال"([7]).

وقال ابن تيمية: "وأمر ابن عباس مؤذنه أن يقول في يوم مطير بعد قوله حي على الفلاح: ألا صلوا في الرحال"([8]).

وفيه أنهما فهما من حديث ابن عباس قولها بعد الحيعلتين.

وقال العراقي: "وإذا حملناه على أنه أذان كامل زاد فيه (صلوا في رحالكم) فيكون تأويل قول ابن عباس: (إذا قلت أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل حي على الصلاة)، أي لا تقلها بعد الشهادتين، بل قل صلوا في بيوتكم أولا، وأتم الأذان بعد ذلك، وفيه نظر"([9]).

 

ثالثا: حديث ابن عمر صريح في الرفع للنبي صلى الله عليه وسلم.

وأما حديث ابن عباس، فليس صريحا في الدلالة على رفع إسقاط الحيعلتين للنبي صلى الله عليه وسلم، بل يحتمل أن يكون ذلك اجتهادًا منه رضي الله عنه.

والسنة المرفوعة التي رواها ابن عمر مقدَّمة على قوله.

وأما قوله (فعله من هو خير مني) فالمراد به الإشارة لأصل الترخيص بترك الجمعة بهذا العذر، لا كيفية النداء بها.

قال السهارنفوري: "حديث ابن عمر صريح في أن هذا الكلام ينادى به في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الأذان عند العذر، كما تدل عليه الروايات، وأما حديث ابن عباس فليس بصريحٍ في هذا الباب".

وقال: "وقوله: (فعل ذا من هو خير مني) لا يقتضي أن تكون المماثلة والاتحاد في جميع الأمور، ولعله يمكن أن تكون المماثلة في النداء بهذا القول، وأما إدخاله في أثناء الأذان بدل الحيعلتين، فلعله يكون ناشئًا من رأيه رضي الله عنه"([10]).

وقال محمود خطاب السبكي: "وقول ابن عباس للمؤذن (فلا تقل حيّ على الصلاة... الخ)، الظاهر أنه اجتهاد منه رضي الله عنه، وقوله: (قد فعل ذا من هو خير مني) الإشارة فيه عائدة إلى النداء بصلوا في بيوتكم لا إلى إبدال الحيعلتين بهذه الكلمة"([11]).

وقال الشيخ الألباني عن رواية ابن عباس: " تدل على أن المؤذن يحذف الحيعلتين ويجعل مكانه: الصلاة في الرحال، وقد ذهب إلى ذلك بعض المحدثين ... وهو الذي يقتضيه الحديث لولا أنه غير ظاهر رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا ثبت رفعه كان المؤذن مخيرا بين حذفها لهذا الحديث وبين إثباتها للأحاديث الأخرى. والله أعلم"([12]).

 

رابعاً: من وجوه ترجيح قولها بعد الفراغ من النداء:

1-أن قولها بعد الأذان فيه محافظة على نسق الأذان كما هو، بخلاف إضافتها إلى ألفاظه أو استبدال بعض ألفاظه بها.

قال النووي: "فيجوز بعد الأذان وفي أثنائه لثبوت السنة فيهما؛ لكن قوله بعده أحسن؛ ليبقى نظم الأذان على وضعه"([13]).

وقال الباجي: "لأن الأذان متصل لا يجوز أن يتخلله ما ليس منه"([14]).

2-أنَّ الحيعلتين من ألفاظ الأذان الثابتة بالسنة النبوية الصحيحة والتي أجمع عليها العلماء، وتواتر عليها عمل المسلمين في كافة الأعصار والأمصار، فلا يمكن إسقاطها من الأذان برواية محتملة في دلالتها ورفعها للنبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن قاسم العبادي: "الحيعلتين ثبت اشتراطهما بالنص، والدليل على إسقاطهما في هذا الفرد الخاص محتمل، فلم يقو على دفع الثابت من غير احتمال"([15]).

بل ذهب بعض العلماء إلى أن الأذان لا يصح مع إسقاطهما في هذه الحال.

قال شمس الدين الرملي: "وقضية قولهم في قول ابن عباس برفعه: (لا تقل حي على الصلاة): أي لا تقل ذلك مقتصرا عليه، أنه لو قاله عوضا: لم يصح أذانه، وهو كذلك"([16]).

3-الأذان من شعائر المسلمين التي ترفع عند كل صلاة، والأصل المحافظة على ألفاظه كما هي، ويبين للناس بعد الفراغ منه الرخصة في التخلف عن الجمعة أو الجماعة.

4-روى الإمام أحمد بسند ضعيف عن نعيم بن النحام، قال: نودي بالصبح في يوم بارد وأنا في مِرْط امرأتي، فقلت: ليت المنادي قال: من قعد فلا حرج عليه، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أذانه: "ومن قعد فلا حرج عليه"([17]).

وهذه رواية ضعيفة لا يحتج بها، لكن تنفع في الاستشهاد.

5-لا تناقضبين قول المؤذن في الأذان (حي على الصلاة)، وقوله بعده (صلوا في بيوتكم)؛ لأن الذي سقط هو الإتيان للمسجد، أما أصل فعل الصلاة فلم يسقط، فالمسلم ما زال مخاطبًا بها مدعوًا لفعلها.

وكما قال ابن قاسم العبادي: "هما هنا ليسا للدعاء إلى محل الأذان، بل للدعاء إلى الصلاة"([18]).

6-أن العمل بحديث ابن عمر فيه خروجٌ من الخلاف وعمل بسنة متفق عليها، وأما العمل بما فُهم من حديث ابن عباس، ففيه نزاع، ويكتنفه احتمالات وتأويلات.

 

والحاصل مما سبق:

أنَّ السنة المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم قولها بعد الفراغ من الأذان، وإن قالها أثناء الأذان فلا حرج؛ لأن الكلام الأجنبي أثناء الأذان لا بأس به للحاجة.

ويشهد لذلك ما رواه النسائي عن عمرو بن أوس قال: أنبأنا رجلٌ من ثقيف أنه سمع منادي النبي صلى الله عليه وسلم يعني في ليلة مطيرة في السفر، يقول: "حي على الصلاة، حي على الفلاح، صلوا في رحالكم"([19]).

وعمرو بن أوس تابعي كبير، وهذا سندٌ صحيحٌ إليه.

وأما إسقاط الحيعلتين فليس من السنة في شيء، وليس ثمَّة ما يدل عليه صراحة، وهو غريب كما ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي.

والله أعلم



([1]) اسم جبل بالقرب من مكة.

([2]) رواه البخاري (668) ومسلم (699).

([3]) البخاري (616) ومسلم (699).

([4]) المصنف (1/500).

([5]) فتح الباري (2/ 113).

([6]) انتهى من فتح الباري (5/ 304)، وكلام الإمام الشافعي في الأم (2/ 196).

([7]) التمهيد (13/ 274).

([8]) شرح العمدة (ص: 131) .

([9]) طرح التثريب في شرح التقريب (2/320).

([10]) بذل المجهود في حل سنن أبي داود (5/53).

تنبيه:في تتمة كلام السهارنفوري السابق قوله عن الحيعلتين: "واختلفوا في إدخال هذه الكلمة في الأذان، هل يدخل في أثنائه، أو ينادى بها بعده، ولم يقل أحد منهم أن يترك الحيعلتين، ويدخل بها في أثنائه بدلهما، والله تعالى أعلم".

وهذا القول غير دقيق، فقد بوب ابن خزيمة على هذا الحديث بقوله : "باب أمر الإمام المؤذن بحذف حي على الصلاة، والأمر بالصلاة في البيوت بدله". صحيح ابن خزيمة (2/899).

وقال الحافظ ابن حجر: "وبوب عليه ابن خزيمة وتبعه ابن حبان ثم المحب الطبري: حذف حي على الصلاة في يوم المطر، وكأنه نظر إلى المعنى؛ لأن (حي على الصلاة) و(الصلاة في الرحال، وصلوا في بيوتكم) يناقض ذلك". فتح الباري (2/98).

([11]) المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (6/207).

([12]) الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب (1/ 136).

([13]) شرح النووي على مسلم (5/ 207).

([14])المنتقى شرح الموطأ (1/139)..

([15]) حاشية العبادي على تحفة المحتاج (1/481).

([16]) نهاية المحتاج (1/409).

([17]) المسند (29/454).

([18]) حاشية تحفة المحتاج (1/481).

([19]) السنن (653).

المقالات المنشورة هي لأعضاء الهيئة، وتعبر عن آراء كاتبيها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الهيئة