قاعدة "اعتبار مآلات الأفعال"
وأثرها في الأحكام الشرعية
الحمد لله رب العالمين، أنعم علينا بدينه القويم، فأتمَّه وأكمله ورضيه للخلق أجمعين؛ قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وقال جل وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3]. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد:
فإنَّ حاجةَ كلِّ من تصدَّر للإفتاء والقضاء والدعوة كبيرةٌ إلى إدراك وفهم قواعد الدين الكلية ومقاصد التشريع العامة، التي يُتوقَّف عليها في فهم الأحكام الشرعية وتنزيلها على الوقائع والنوازل، ومن ذلك قاعدة النظر في مآلات الأقوال والأفعال، فمعرفة أحوال الناس وأعرافهم وعاداتهم والواقع الذي يعيشون لا يقل أهمية عن معرفة الأحكام.
أولًا: المقصود بهذه القاعدة:
1-يقصد بالمآل في اللغة: الرجوع والمصير والعاقبة؛ قال الفيروزآبادي في "القاموس المحيط": "آلَ إليه أوْلاً ومَآلاً: رَجَعَ، وعنه: ارْتَدَّ". وجاء في "المعجم الوسيط":" آل إليه أولًا وإيالًا وأيلولة ومآلًا: رجع وصار". وقال ابن فارس متحدثًا عن التأويل في "فقه اللغة":" واشتقاق الكلمة من المآل، وهو العاقبة والمصير".
وتأتي كلمة (آل) أيضًا بمعنى: الإصلاح وسياسة الرعية، وبمعنى أهل بيت الرجل، وكذا تأتي بمعنى تخثُّر اللبن.
2-ويقصد بهذه القاعدة عند الفقهاء والأصوليين: الاعتداد والاعتبار بما تؤول إليه الأفعال من مصالح ومفاسد، فقد يكون العمل في الأصل مشروعًا، ولكن يُنهى عنه؛ لما يؤول إليه من المفسدة، وهو ما يسميه أهل العلم بسدّ الذرائع، وقد يكون العمل ممنوعًا، ولكن يُترك النهي عنه؛ لما في ذلك من المصلحة، وهو ما يسميه أهل العلم بفتح الذرائع.
فبيع السلاح -مثلًا- جائز في الأصل، ولكن يمنع بيعه في زمن الفتنة؛ لما يؤول إليه من الإعانة على العدوان.
ونزع الملكية الفردية لا يجوز، ولكن إذا كان في نزعها مصلحة عامة، كتوسعة مسجد أو فتح طريق عام للمسلمين فإنه يجوز، لما يؤول إليه من المصلحة العامة.
ثانيًا: الأدلة على اعتبار هذه القاعدة:
استدل العلماء على صحة هذه القاعدة بأدلة عديدة، من أهمِّها:
1-قال الله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108]، قال القرطبي في "تفسيره": "فنهى سبحانه المؤمنين أن يسبوا أوثانهم؛ لأنه علم إذا سبوها نفر الكفار وازدادوا كفرا... قال العلماء: حكمها باقٍ في هذه الأمة على كل حال؛ فمتى كان الكافر في منعة، وخيف أن يسبَّ الإسلام أو النبي عليه الصلاة والسلام أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسبَّ صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية". وقال ابن كثير في تفسيره:" يقول تعالى ناهيًا لرسوله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلا هو".
2-عن جابر رضي الله عنه قال: (كنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رجلٌ من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاريُّ: يا لَلأنصار. وقال المهاجريُّ: يا لَلمهاجرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ قالوا: يا رسولَ الله كَسَعَ رجلٌ من المهاجرينَ رجلًا من الأنصار. فقال: دَعُوها فإنَّها مُنْتِنَةٌ. فسمعها عبد الله بنُ أُبَيّ، فقال قد فعلوها، والله لَئِنْ رجعنا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ. قال عمرُ: دَعْني أضْرِبْ عُنُقَ هذا المنافقِ. فقال: دَعْهُ، لا يتحدَّثُ النَّاسُ أنَّ محمَّدًا يقتلُ أصحابَهُ) رواه البخاري ومسلم.
قال النَّووي في "شرح صحيح مسلم": "وفيه ترك بعض الامور المختارة والصبر على بعض المفاسد خوفًا من أن تترتب على ذلك مفسدة أعظم منه".
3-عن عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (يا عائشة لولا أنَّ قومَك حديثُ عهدٍ بجاهلية لأمرت بالبيت، فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا، فإنهم قد عجزوا عن بنائه، فبلغتُ به أساسَ إبراهيم عليه السلام) متفق عليه.
قال ابن حجر في "فتح الباري": "ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة". وقال النووي في "شرح صحيح مسلم":" وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام، منها: إذا تعارضت المصالح، أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة، بدئ بالأهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّ نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم عليه السلام مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهي خوف فتنة من أسلم قريبًا، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيمًا".
4-عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (بينما نحنُ في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِذْ جاء أعرابيّ، فقام يبولُ في المسجد، فقال أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ، مَهْ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُزْرِمُوه، دَعُوه، فتركوه حتى بالَ ... ) متفق عليه.
قال الإمام الصنعاني في "سبل السلام": "ومنها (أي: فوائد الحديث) دفع أعظم المضرَّتين بأخفِّهما؛ لأنه لو قُطع عليه بولُه لأضرَّ به، وكان يحصل من تقويمه من محله، مع ما قد حصل من تنجيس المسجد، تنجيس بدنه وثيابه ومواضع من المسجد غير الذي قد وقع فيه البول أولًا".
5-قال الإمام الشاطبي في "الموافقات": "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع، لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغِبِّ (العاقبة)، جار على مقاصد الشريعة".
ثالثًا: ضوابط اعتبار مآلات الأفعال:
لا شك أن العمل بهذه القاعدة دقيق الاستعمال، وعر الطريق، وهو عرضة لزلل الأقدام، وتعثر الأفهام، فقد يصعب تقدير المآل، خاصة فيما كان من شؤون الحياة المتشابكة والمعقدة، وإن كانت نتائج تقدير المآل خاطئة آل الأمر إلى تغيير في شرع الله تعالى، بتجويز الممنوع ومنع الجائز، كما جاء في قول الإمام الشاطبي: "وهو مجال للمجتهد صعب المورد"؛ لذلك كان واجبًا على أهل العلم إحاطة استعمال هذه القاعدة بجملة من القيود والضوابط؛ ترشيدًا للنظر، وتجنبًا للزلل، ومن أهم هذه الضوابط:
1-الضابط الأول: تحري المقصد الذي من أجله شُرع الحكم الشرعي في الواقعة المراد النظر فيها، فإذا تبين عدم تحقق المقصد عُدل بالحكم الأصلي إلى غيره، ولتحرِّي المقاصد وسائل عدة، منها:
أ-النظر في النصوص الشرعية، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)، فقد جاء الحديث نصًّا في مقصد تشريع الاستئذان.
ب-الاستدلال بدلالة المقصد الأصلي على المقاصد الفرعية، ومثال ذلك "الصلاة" فقد جاء أن المقصد الأصلي منها هو ذكر الله تعالى، وهي مع ذلك تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهذا مقصد فرعي، إلا أنه يقوي ويعزز المقصد الأصلي، لما فيه من تعظيمٍ الله تعالى في ترك المنكرات.
ت-الكشف عن المقصد بالاستقراء، وهو تتبع جميع أو أكثر الأحكام الجزئية، للوصول إلى قانون عام، يُحكم به على هذه الجزيئات، ومن ذلك النهي عن بيع المحاقلة والمزابنة والملامسة والمنابذة(1)، وغيرها، فإنه عُلم بالاستقراء أن المقصد العام لهذه الأحكام هو إبطال الغَرر.
ث-وثمة طرقٌ أخرى لمعرفة مقاصد الأحكام، كالاهتداء بفهم الصحابة والتابعين رضي الله عنهم لمقاصد الأحكام، مما صح إسناده إليهم أو إلى بعض منهم، وغيرها.
2-الضابط الثاني: التحرِّي في أيلولة الواقعة المراد النظر فيها: هل سيتحقق المقصد الشرعي من الحكم الشرعي عند تطبيقه على هذه الواقعة أم لا؟ فعلى الفقيه بعد دراسة الأحكام الشرعية ومعرفة مقاصدها أن يتحرَّى فيما ستؤول إليه هذه الأحكام عند تطبيقها. وأحكام الشريعة في الغالب تؤول إلى تحقيق مقاصدها عند تطبيقها على الأفعال، وقد تتخلف أحيانًا لأسباب ومؤثرات عدة، وعلى الفقيه أن يكون على بصيرة بها، ومن هذه الأسباب والمؤثرات:
أ-اكتساب فعل من الأفعال، أو شخصية من الشخصيات، أو مجموعة من الناس صفة ما، تكون مصادمة لطبيعة المقصد الشرعي المراد تحقيقه، ومن أمثلة ذلك ما ذكره ابن القيم في "إعلام الموقعين": "سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم، يشربون الخمر، فأنكر عليهم مَنْ كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، فدعهم".
ب-اكتساب الفعل ظرفًا زمانيًّا أو مكانيًّا ما، قد يجعل طبيعة الفعل منافية لتحقيق المقصد الشرعي المراد من تطبيق الحكم الشرعي، ومن ذلك تطبيق الحدود في زمن تدور فيه الحروب، أو في مكان قريب من الأعداء... فعن جنادة بن أبي أمية رحمه اللَّه قال: ( كُنَّا مَعَ بُسْرِ بنِ أرطاةَ في البحرِ، فَأُتيَ بِسارقِ، قد سَرقَ بُخْتيَّة [الأنثى من الجمال طوال الأعناق]، فقال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: لا تُقْطَعُ الأيدي في السَّفَرِ، ولولا ذلك لَقَطَعْتُهُ) رواه أبو داود.
وفي رواية للترمذي مختصرًا: قال بُسْرٌ رضي الله عنه: (سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: لا تُقطَع الأيدي في الغزوِ).
قال ابن القيم في "أعلام الموقعين": "فهذا حدٌّ من حدود الله تعالى، وقد نُهي عن إقامته في الغزو؛ خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره، من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبًا ... وقد نصَّ أحمد وإسحاق بن راهويه والأوزاعي وغيرهم من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام على أرض العدو".
ت-وقوع بعض الأفعال والتصرفات يكون مؤثرًا على أيلولة الحكم الشرعي، فقد يتحول تطبيق الحكم عليه مانعًا من حصول مقصد ذلك الحكم، ومن ذلك تبوُّل الأعرابي في المسجد، فقد اكتسب هذا الفعل بوقوعه منع حصول المقصد الشرعي، وهو الحفاظ على نظافة المكان، لذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من زجر هذا الأعرابي.
رابعًا: شروط اعتبار مآلات الأفعال:
1-أن يكون تحقُّقُ وقوع المآل يقينًا أو غالبًا أو كثيرًا؛ قال ابن حزم في "المحلى": "ولا يحلُّ بيعُ شيءٍ ممَّنْ يُوقَنُ أنَّهُ يعصي اللهَ به أو فيه، وهو مفسوخٌ أبدًا. كبيعِ كلِّ شيءٍ يُنبَذُ أو يُعصَرُ ممَّنْ يُوقَنُ بها أنَّهُ يعملُهُ خمرًا".
وقال ابن فرحون اليعمري في "تبصرة الحكام": "ويُنزَّلُ منزلةَ التَّحقيقِ الظَّنُّ الغالبُ".
وقال العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام":" والشَّرع قد يحتاط لما يكثر وقوعُه احتياطَه لما تحققَ وقوعُه".
2-أن يكون المآل مُحقِّقًا لمقصد شرعي، من جلب مصلحة أو دفع مفسدة؛ قال ابن تيمية في "الفتاوى": "الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فجميع المحرَّمات من الشرك والخمر والميسر والفواحش والظلم، قد يحصل لصاحبه به منافع ومقاصد، لكن لما كانت مفاسدها راجحة على مصالحها نهى الله ورسوله عنها. كما أن كثيرًا من الأمور كالعبادات والجهاد وإنفاق الأموال قد تكون مضرة، لكن لما كانت مصلحته راجحة على مفسدته أمر به الشارع. فهذا أصل يجب اعتباره، ولا يجوز أن يكون الشيء واجبًا أو مستحبًا إلا بدليل شرعي يقتضي إيجابه أو استحبابه".
وإذا قُصد بالفعل التوصُّل إلى محظور أو إلى إسقاط مصالح مشروعة، فإن هذا المآل يعتبر فاسدًا آيلًا إلى هدم مقاصد التشريع، ولقد ذم الله تعالى اليهود الذين قصدوا التوصل إلى ما حرم عليهم بفعل مباح. ومن ذلك أن يقصد الإنسان بالفعل المباح الإضرار بالغير، ولقد نص الله تعالى عن إمساك الزوجة بقصد الإضرار بها، لتفدي نفسها ببعض مالها.
3-أن يكون ما يؤول إليه الفعل من المقاصد منضبطًا معتبرًا شرعًا، فلا يعتدُّ بمآلٍ فيه خلطٌ أو التباسٌ أو اُعتمدَ في تحديد كونه مصلحة أو مفسدة على العقل وحده؛ قال ابن تيمية في "الفتاوى": "اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر".
وقال الشاطبي في "الموافقات": "المصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له؛ فقد يكون ساعيًا في مصلحة نفسه من وجهٍ لا يوصله إليها، أو يوصله إليها عاجلًا لا آجلًا، أو يوصله إليها ناقصة لا كاملة، أو يكون فيها مفسدة تربي في الموازنة على المصلحة؛ فلا يقوم خيرها بشرها، وكم من مدبر أمرًا لا يتم له على كماله أصلًا، ولا يجني منه ثمرة أصلًا، وهو معلوم مشاهد بين العقلاء، فلهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين..".
4-ألا يؤدي اعتبار المآل إلى تفويت مصلحة أعظم؛ وذلك لأنه إذا تعارضت مصلحتان وازدحمتا، بحيث لم يمكن الجمع بينهما، وكان لا بد من ترك واحدةٍ منهما للإتيان بالأخرى؛ فالمتعيِّن فعلُ ما مصلحته أرجح وترك ما مصلحته أقل. قال العز بن عبد السلام في "القواعد الصغرى": "إذا اجتمعت مصالح أخروية، فإن أمكن تحصيلها حصَّلناها، وإن تعذر تحصيلها فإن تساوت تخيرنا بينها، وقد يقرع فيما نقدم منها، وإن تفاوتت قدَّمنا الأصلح فالأصلح".
ومن ذلك اتفاقية تقسيم الحدود بين البلدان الإسلامية "سايكس بيكو"، فلا شك أن ما أحدثته هذه الاتفاقية جريمة في حق الدول الإسلامية، وإلغاء آثار هذه الاتفاقية مصلحة شرعية مهمة، ولكن إشغال شباب الثورة السورية بهذه القضية، وتشويش أفكارهم حول رفع علم الاستقلال وغيرها من متعلقات المسألة، يفوت مصلحة كبيرة، وهي وحدة الثوار والبلاد، ووحدة توجيه الهدف نحو إسقاط النظام المجرم ... بل ومنع استعداء الناس على أهل الشام، وغيرها من المصالح.
5-ألا يؤدي اعتبار المآل إلى مفسدة أكبر، قال الإمام القرافي في "الفروق" وهو يتحدث عن شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:" الشرط الثاني: أن يأمن من أن يكون يؤدي إنكارُه إلى منكر أكبر منه، مثل أن ينهى عن شرب الخمر، فيؤدي نهيُه عنه إلى قتل النفس أو نحوه".
فلو نظر طالب العلم في النصوص الشرعية وأقوال العلماء تبيَّن له حرمة بناء المشاهد والقباب على القبور، وأنَّ الواجب إزالتها متى وجدت، ولكنَّه إذا تأمل في حال الثورة السورية وحال الناس يتبيَّن له: "أنّ في الاستعجال بهدمها مفاسد عظيمة، فطوائف من الناس متعلقون بها أشدَّ التعلُّق، ويرون تعظيمها من الدين، فهدمها قبل تبيين أمرها سيزيد من التعلُّق بها والتعصب لها، وسيستعدي المجتمع على الدعاة المصلحين بما يؤدي إلى كُرههم والتنفير منهم، وفي هذا من الصد عن سبيل الله ما فيه. فلا بد أن يسبق ذلك النصحُ والبيانُ للناس حتى يتمكن الإيمان من القلوب. وتحقيقُ هذا المقصود لا يكون إلا بأخذ الناس بالرفق والتدرُّج بعد عقودٍ طويلةٍ من التجهيل والبعد عن الدين" ينظر الفتوى رقم (39) من فتاوى هيئة الشام: حكم هدم الأضرحة والقِباب المبنية على القبور.
خامسًا: طرق معرفة المآل:
الطرق والوسائل المعينة للفقيه على معرفة المآل كثيرة ومتنوعة، منها:
1-نص الشارع على المآل المفضي إليه الفعل، كقول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]. فقد نصت الآية الكريمة على أن إعداد القوة يحقق مصلحة إرهاب العدو.
2-تصريح المكلف عن مقصده ونيته من هذا الفعل، قال ابن قدامة في "المغني" وهو يتحدث عن بيع شيء لمن يعلم أنه يريده للمعصية:" فإنما يحرم البيع ويبطل، إذا علم البائع قصد المشتري ذلك، إما بقوله، وإما بقرائن مختصة به تدل على ذلك".
3-احتفاء الفعل بالقرائن الدالة على مقصد المكلف من إتيان فعل ما، والقرائن معتبرة عند كثير من الفقهاء، قال منصور البهوتي في "كشف القناع": "ولا بيع سلاح ونحوه في فتنة، أو لأهل حرب، أو لقطاع طريق، إذا علم البائع ذلك من مشتريه، ولو بقرائن".
4-التجربة، وهي خبرةٌ تستفاد من تكرار وقوع الشيء، قال الغزالي في "المستصفى": "وكذلك العلم بصدق خبر التواتر، ويقرب منه العلم المستفاد من التجربة، التي يعبر عنها باطراد العادات، كقولنا: الماء مُروٍ، والخمر مسكر".
وقال ابن رشد في "بداية المجتهد": "وهذه الأقاويل كلها المختلف فيها عند الفقهاء في أقل الحيض وأكثره وأقل الطهر، لا مستند لها إلا التجربة والعادة".
سادسًا: فوائد العمل بقاعدة اعتبار مآلات الأفعال:
وللعمل بهذه الأصل فوائد متعددة، وحكم كثيرة، منها:
1-تحقيق مقصود الأحكام الشرعية، في جلب المصالح، ودرء المفاسد، يقول الدكتور فتحي الدريني: "إن الحكم الشرعي لا يكتفى فيه أن يكون موافقًا لظواهر النصوص أو لمقتضى القياس أو القاعدة العامة، بل لا بد أن يكون موافقًا لمقصد الشرع، وهذا الأصل يوجب على المجتهد النظر في مآل العمل بالحكم، بحيث إذا أفضى إلى مفسدة راجحة منع العمل به، وكذلك إذا كان الحكم بالمنع يؤدي إلى مثل تلك المفسدة" ينظر: [الحق ومدى سلطان الدولة في تقيده، ص: 16].
2-تحقيق العدل في الأحكام الشرعية، فاعتبار مآلات الأفعال يجعل الأفعال موافقة لمقاصد التشريع، في رفع المفاسد والأضرار عن المكلف، قال الدكتور الدريني: "وإنما تبدو صلة المآل بأصل العدل في أقوى صورها فيما إذا كان المآل ضررًا راجحًا، أو حرجًا بالغًا غير معتاد، سواء أكان ناشئًا عن ممارسة حق أم إباحة، أم كان نتيجة لأزمة تلقائية لاجتهاد وتشريعي فروعي في وقائع معروضة؛ ذلك لأن الشارع الحكيم لا يقصد إلى مثل هذا قطعًا، لسبب بسيط، هو كونه منافيًا للأصل العام الذي عليه تشريعه كله، من جلب المصالح ودرء المفاسد" ينظر: [نظرية التعسف في استعمال الحق، ص: 24-25].
3-العمل بهذا الأصل يُظهِرُ واقعية التشريع الإسلامي، فمراعاة الخصوصيات واختلاف الظروف والأحوال، تجعل الأحكام الشرعية موافقة لمقصد التشريع، في تحقيق المصالح للعباد، ودفع المفاسد عنهم، يقول الشاطبي في "الموافقات": "لا يصح للعالم إذا سئل عن أمر كيف يحصل في الواقع إلا أن يجيب بحسب الواقع، فإن أجاب على غير ذلك؛ أخطأ في عدم اعتبار المناط المسؤول عن حكمه؛ لأنه سئل عن مناط معين؛ فأجاب عن مناط غير معين".
سابعًا: وفي الختام:
فقد ظهر لنا عظيم نفع هذا الأصل، أصل اعتبار مآلات الأفعال، في حفظ مقاصد الأحكام الشرعية، جلبًا للمصالح ودرءًا للمفاسد، والواجب على العاملين في الساحة الإسلامية أن يعملوا بهذا الأصل في الفتاوى وتنزيل الأحكام، وفي التعليم والدعوة إلى الله، وفي التغبير وإزالة المخالفات، مراعينَ في ذلك شروطَ وضوابطَ هذا الأصل العظيم، وإلا كان العمل بها وسيلة للتهرب من الشريعة وأحكامها.
هذا الخليفة عمر بن عبد العزيز لمَّا تولى الخلافة لم يتعجَّل في تغيير ما أنكره على من قبله، فدخل عليه ابنه عبد الملك، وقال له:" يا أبتِ: ما منعكَ أنْ تمضيَ لما تريدُهُ من العدلِ؟ فواللهِ! ما كنتُ أبالي لو غلتْ بي وبكَ القُدورُ في ذلك! فقال:" يا بُنَيَّ! إني إنَّما أُروِّضُ النَّاسَ رياضةَ الصَّعبِ، وإني أريدُ أنْ أُحْييَ الأَمرَ من العدلِ، فأؤخّرَ ذلكَ حتى أخرجَ معه طمعًا من طمعِ الدنيا، فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه" أخرجه الإمام أحمد في كتاب الزهد، وإسناده صحيح.
ولقد: " سئل الإمام مالك -رحمه الله تعالى- عن الرقيق العجم، يُشترون في شهر رمضان، وهم لا يعرفون الإسلام، ويرغبون فيه، لكن لا يفقهون ما يُراد منهم، فهل يُجبرون على الصيام أم يُطعمون؟ فقال: أرى أن يُطعموا ولا يُمنعوا الطعام، ويرفق بهم حتى يتعلموا الإسلام، ويعرفوا واجباته وأحكامه" ذكره في "البيان والتحصيل".
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبصرنا وإخواننا من طلبة العلم بواجبنا العظيم تجاه هذه الأمة، فنجعل تذكيرنا ونصحنا في رفق ولين، ونراعي في أحكامنا وفتاوانا مآلات الأفعال وعواقبها ... نعم المسؤول ربنا، وعلى الله توكلنا، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------------------------------------------
1- فالمُحاقلة: هي بيع الحب المشتد في سنبله بحبٍّ من جنسه. والمُزابنة: هي أن يباع ثمر النخل بالتمر كيلًا، وكذا بيع العنب بالزبيب. والملامسة: هو أن يأتي بثوب مطويٍّ، أو في ظُلمة الليل؛ فيلمسه المشتري، فيقول صاحبُه: بعتك هذا، بشرط أنَّ لمسَك يقوم مقام نظرك إليه، ولا خيار لك إذا رأيته. والمُنابذة: هو أن يقول: أنبذُ إليكَ ثوبي، وتنبذُ إليَّ ثوبك؛ على أنَّ كل واحد بالآخر، أو يقول: أنبذُ إليكَ ثوبي بعشرة؛ فيأخذه الآخر اكتفاءً بالنبذ عن الصيغة، أو يقول: أيّ ثوب نبذتَه إليَّ فقد اشتريتُه بكذا.