منظومة الاعتقادات المثبتة زمن الشدة
من لا يعرف زمن الشدة ؟! وهل بيننا إلا وقد عاشه مرات ومرات !
زمن الشدة حال عصيبة تمر بالإنسان فتؤذيه في نفسه أو أهله أو ماله أو عرضه.
سماه القرآن ضراً، وبأساً، وفتنة، وعسراً، وابتلاء، وأوصاف أخرى، فقال {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } [ الروم 33 ]، وقال {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [ البقرة 114] وقال {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} العنكبوت 2، وقال {فإن مع العسر يسرا} [ الشرح 5 ]، وقال {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ َالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [ محمد 31 ]
تكون الشدة مرضاً، أوخسارة مال، أو موت حبيب أو معيل، أو اعتقالاً وملاحقة وتضييقاً أوتعذيباً، أو ألواناً أخرى.
وإذا كان زمن الشدة ليس منا إلا وارده، فإن أحوج ما نحتاج إليه في هذه الأزمان الثبات، إذ الثبات يهون الشدة، ويخفف من أذاها على البدن والنفس، بل ربما يورث الرضا، فيعين على تجاوزها، ويحمي من مقاتلها: الجزع والهلع، واليأس والقنوط والإحباط، وقد يصل ببعض ضعاف الإيمان إلى الرغبة في الانتحار، أو النكوص والانتكاس عن درب الاستقامة.
ومن رحمة الله بعباده أنه لم يكلهم إلى أنفسهم، بل شرع لهم أعمالاً يستعينون بها على الثبات، على رأسها:
الصبر والصلاة، {واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} البقرة 45 {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [ البقرة 120] ، و(كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إذا حزبَهُ أمرٌ فزعَ إلى الصَّلاةِ)، أخرجه أبو داود.
قراءة القرآن وتدبره {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [ الفرقان 32 ] ، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم (أن تجعلَ القرآنَ العظيمَ ربيعَ قلبي ونورَ صدْري وجلاءَ حزني، وذهابَ همِّي وغمِّي) أخرجه أحمد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
الذكر {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [ الرعد 22 ] ، وقد سبق حديث ابن مسعود وفي مطلعه (ما أصاب أحدًا قط همٌّ و لا حزنٌ ، فقال : اللهمَّ إني عبدُك ، و ابنُ عبدِك ، و ابنُ أَمَتِك .. إلا أذهبَ اللهُ همَّهُ و حزنَه ، و أبدلَه مكانَه فرجًا)
التضرع: {أمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [ النمل 62 ] ، وقوله {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [ الأنعام 42 ].
التأسي: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [ هود 120 ]، وفي الحديث (إذا أُصيب أحدكم بمصيبةٍ فليذكُرْ مصيبَتَهُ بي فإنَّها أعظمُ المصائبِ) رواه الدارمي والطبراني.
وفي قصة الثلاثة الذين خلفوا يقول كعب (قلت لهم هل لقي هذا معي أحد قالوا نعم رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت من هما قالوا مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي)، رواه البخاري.
وإن مما يثبت الناس زمن الشدة صحة معتقداتهم وتصوراتهم، فتأمل حين أيقن المجاهد بما أعد الله لمن يقاتل في سبيله كيف أرخص نفسه لله، وأقبل على الشهادة في سبيله.
والاعتقاد أمر زائد عن المعرفة، فالمعرفة نشاط عقلي ذهني، أما الاعتقاد فهو تكامل العقل مع الروح أوالعاطفة. المعرفة في المسألة الواحدة له حد، ويتساوى فيه الناس، أما اليقين فيكاد لا يكون له حد ينتهي إليه، ويتفاوت فيه الناس تفاوتاً كبيراً. كلنا "يعلم" أن الشهيد في الجنة، وأن الله يخلف على المنفق، لكن من ذا الذي يوقن بذلك فعلاً فيرخص نفسه لله، وتسخو يده بالإنفاق ولو كان به خصاصة؟!
وإذا تأملت في الاعتقادات المثبتة في الإسلام، وجدتها منظومة متكاملة، يأخذ بعضها بيد بعض، وتأخذ بيد من يؤمن بها فيكون كالطود الراسخ في زمن الشدة.
تبدأ المنظومة من الاعتقاد بأن الجزاء والقصاص لما يحدث في الدنيا إنما يكون في الآخرة، وأن ما يكون في الدنيا ليس نهاية المطاف. والآيات في هذا أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر، فالقرآن دائماً يعد بالقصاص في الآخرة. هذا هو الأمر الجازم المطرد، ولم يعلقنا الله بشيء في الدنيا.
يحدثنا كيف كان المجرمون يهزؤون بالمؤمنين في الدنيا {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ} [ المطففين 29 ]، ثم يجعل حسابهم في الآخرة {فالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [ المطففين 34 ]، ويمر بآل ياسر وهم يعذبون فلا يزيد على أن يقول (صبرًا آل ياسرٍ ، فإنَّ موعدَكم الجنةُ) رواه الطبراني والحاكم.
ويتوعد الظالمين فيقول {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} إبراهيم:42 ، ويقول {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} [ آل عمران 196 - 197 ]
فالأمر مطرد اطراداً عجيباً: إنما الجزاء في الآخرة.
لماذا جعل الله الأمر على هذا النحو؟ لأن الدنيا أحقر من أن تكون ثواباً للمؤمن أو عذاباً للكافر، فلا نعيمها نعيم يليق بالمؤمن، ولا عذابها عذاب يوازي جرم الكافر.
فلا تعلق قلبك بأن ترى عقوبة الظالم أو الانتصار للمظلوم في الدنيا، فضلاً عن أن يكون في حياتك القصيرة. وما يكون من ثواب المؤمن وعذاب الكافر في الدنيا فلحكمة من الله، فقد يكون ذلك لتثبيت المؤمنين، وحتى لا يشتد عليهم البلاء، كما قال تعالى {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُون. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ. وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [ الزخرف 33 - 35 ]، وقد يكون للعظة والتذكير بالرجعة إلى الله {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [ الروزم 41 ]، وحكم أخرى الله أعلم بها.
الحلقة الثانية من منظومة التثبيت: أن الدنيا دار بلاء واختبار. ما أكثر شيوع هذه العبارة، فكل الناس يعلمونها، لكن من يوقن بها حقاً؟
تعني هذه العبارة أن الابتلاء في الدنيا هو الأصل، وليس الاستثناء، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [ العنكبوت 2 ] ، ويقسم الله فيقول {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} [ آل عمران 186] ، فمن جزع عند المصيبة وأنكرها، لم يعلم حقيقة الدنيا، ولا فقه الغاية من الخلق.
ثم تأتي الحلقة الثالثة من المنظومة لتبشر ببشارة عظيمة: أن البلاء – وهو قدر هذه الدنيا- خير للمؤمن.
(إنَّ اللهَ إذا أَحَبَّ قومًا ابتلاهم ، فمن صبر فله الصبرُ ، و من جزع فله الجزَعُ) رواه الترمذي.
و (سُئِلَ رسولُ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ ، قَالَ: الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ) رواه الترمذي وابن ماجة.
لاحظ الرحمة المقصودة في البلاء، "يبتليه الله على قدر دينه" لأنه لا يريده أن يسقط في الامتحان!
وأجر أهل البلاء الصابرين في الآخرة فوق أجر أهل العافية، ثم البلاء في الدنيا يكفر الذنوب ليكون العبد نقياً منها يوم القيامة، كما سبق في الحديث، وقد يعجَّل العذاب للمسلم حتى تسلم له آخرته.
وكذلك الأمة بمجموعها، فإن ما يصيبها في الدنيا يطهرها في الآخرة (أمَّتي أمَّةٌ مَرحومةٌ ، ليس عليها عذابٌ في الآخرةِ ، عذابُها في الدُّنيا الفِتَنُ والزَّلازلُ والقتلُ) أخرجه أبو داود والحاكم وأحمد.
وتقودنا هذه الحلقة من المنظومة تلقائياً إلى الحلقة الرابعة، وهي الاعتقاد بمعية الله، والمعية في زمن الشدة مما امتن الله به على الأنبياء. فلما تأخر الوحي وقال المشركون: قد قلاك ربك، نفى الله قولهم، وخاطب نبيه بقوله {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلا فأغنى} [ الضحى 5 - 7 ]. ولما أمر الله موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون، تهيب الأمر، فطمأنه الله بقوله {قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ} [ طه 46 ]
وبالمعية ثبّت النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه حين قال له: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) أخرجه البزار.
وتأمل حال أم موسى، لما أيقنت أن الله معها – بعد أن رد عليها رضيعها- تعاسرت على امرأة فرعون، وهي التي كان فؤادها قبل برهة فارغاً من الخوف واللهفة عليه، والقصة في حديث الفتون الطويل المشهور.
ولقد وعد الله المبتلين بالعون على لسان نبيه فقال (تنزِلُ المعونَةُ مِنَ السماءِ علَى قَدْرِ المؤْنَةِ ، وينزلُ الصبرُ على قدرِ المصيبةِ) رواه البزار.
وسمى الله نفسه المجيب، من كثرة ما يجيب عباده المتضرعين، {أمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [ النمل 62 ]
هذا الشعور بالمعية يجعل المبتلى مطمئناً واثقاً بفرج الله، بل يرى الفرج في ثنايا الابتلاء {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما} [ الأحزاب 22 ]
ومن أعظم السبل لاستجلاب معية الله في الشدة، الاستقامة على أمره في الرخاء (احفَظِ اللهَ يحفَظْك ، احفَظِ اللهَ تجِدْه أمامك ، تعرَّفْ إليه في الرَّخاءِ يعرِفْك في الشِّدَّةِ) رواه الترمذي.
وخامس حلقات منظومة التثبيت الاعتقادية الإيمان بالقدر {مَآ أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَآ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَآ ءاتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }
[ الحديد 22-23 ]
وتأمل قول الله تعالى {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا } التوبة 51 قال كتب (لنا)، ولم يقل (علينا)، ثم أردف بقوله (هو مولانا)، والمولى لا يريد بمولاه إلا الخير.
يا ولي الإسلام وأهله مسّكنا بالإسلام حتى نلقاك عليه، وجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.