الأربعاء 2 جمادى الآخر 1446 هـ الموافق 4 ديسمبر 2024 م
القضاء العادل أساس الدولة الراشدة
الثلاثاء 30 ذو القعدة 1438 هـ الموافق 22 أغسطس 2017 م
عدد الزيارات : 4232

 

القضاء العادل أساس الدولة الراشدة


إنّ القضاء من المفاهيم الحساسة التي تحمل طابع القدسية عند جميع الأمم بشكل عام وعند المسلمين بشكل خاص، ويعتبر حاكما على مدى تقدم الدولة وازدهارها أو تخلفها وانحطاطها، وهو رمز من رموز استقلالها وسيادتها، ومعيار رشادها، وطريق أمنها وسعادتها، ومظهر من مظاهر نجاحها ورقيها العقلي والفكري، وإن قوة الدولة وصلاحها تظهر من خلال قوة القضاء وإنصافه.
ولأهمية القضاء العادل في الدولة المسلمة فقد كان مقصدا من مقاصد النبوة والرسالة، قال الله عز وجل: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الحديد 25، وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم القضاة المقسطين بالمكانة الرفيعة يوم القيامة، فقال: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا" (رواه مسلم)، ولأن طباع البشر مجبولة على التظالم كما يقول الغزالي فإن إقامة العدل في الأحكام ليس بالأمر السهل، فقد يكون هناك ميل للنفس إلى تحصيل المصالح على غير الوجه المشروع، ولذلك جاء التحذير الشديد من اتباع الهوى والحَيف في الحكم، وكان التعنيف الشديد على القاسطين المضيعين لحقوق الناس، قال الله عز وجل: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) الجن 15، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القضاةُ ثلاثةٌ: قَاضِيانِ فِي النَّارِ، وقَاضٍ فِي الجَنَّة، رجلٌ قضى بِغَيرِ الحقِّ فعَلِمَ ذَاكَ، فَذَاكَ فِي النَّار، وقَاضٍ لا يَعْلَمُ فَأَهلك حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قضَى بالْحَقِّ فَذلكَ فِي الْـجَنَّة." (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وصححه الألباني)

وقد عمل الفقهاء على مر العصور على صيانة القضاء وحفظه من العبث، فنبهوا على مكانته العظيمة ودوره في الحفاظ على استمرارية الدولة، وأفردوا له في الفقه بابا من أبوابه، وأحاطوه بالإجلال والتقدير والاحترام، وسبروا أبعاد القضاء المختلفة والاحتمالات الممكنة، فكان لهم إبداع في القضايا والنوازل الجديدة، وما ذلك إلا لأن القضاء صورة من الصور العملية التي تتجلى فيها الشريعة الإسلامية، يظهر ذلك من خلال ملازمة الفتوى حكمَ القاضي، وعلاقة النص القرآني والحديثي بالواقع والحكم، ولذلك عدَّ بعض الفقهاء القضاء من أقوى الفرائض بعد الإيمان بالله تعالى.
والمجتمعات على اختلافها لا يمكن أن تقوم بلا قضاء يحمي الحقوق ويرد المظالم ويؤسس في الدولة العدل، ذلك أن العدل قيمة عظيمة وحاجة أساسية، وغيابه يعني اختلال القيم والموازين وضياع الحقوق وانهيار المجتمع أو خراب العمران على حد تعبير ابن خلدون في المقدمة، وقد أدرك الحكماء في الجاهلية هذه القيمة العظيمة وأهميتها في الإصلاح، فقال الأفوه الأودي:
لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم      وَلا سَراةَ إِذا جُهّالُهُم سادوا
من أجل ذلك ألقى الإسلام مسؤولية تحقيق العدل ودفع الظلم على الجميع، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه" (رواه الترمذي، وصححه الألباني)
وفي هذا العدد من مجلة نور الشام نفتح ملف القضاء في مناطق سورية المحررة، لنقف عند معالمه في الثورة السورية ونتعرف إلى التحديات القائمة والمقبلة، ولنكشف عن مواطن الخلل، ونساهم في تقديم رؤى جديدة تتجاوز الأخطاء وتغني الواقع وتحقق الإصلاح.