إن كان الحب محور حديث العشاق وحكايات الرواة، وبه يطرب المغنون وترقص القلوب فرحاً بذكره، فهذا كله لا يساوي ضمة تضمها الأم لطفلها ولا يساوي قبلة تهديها له.. كل حب الدنيا لا يذكر حين نقارنه بحب الأم أو الأب لطفلهما.
لم أكن أتوقع أن أحب أطفالي إلى هذا الحد!
كنت أردد بيني وبين نفسي ماذا يفرق طفلي عن أي طفل آخر؟!
هل تستحق الأمومة كل هذه التضحية التي تقدمها الأمهات؟!
تنهك جسدها وتخسر جمالها ورشاقتها وصحتها، تسهر الليالي وتزداد همومها وخوفها، كنت سطحية!
أتكلم بلسان العقل ولسان من لم يجرب
لم أشعر بأهميتي وقيمتي بقدر ما شعرت بها مع ابنتي، لم أعلم معنى أن تضحي بحب وبدون ندم حتى جربته مع ابنتي، لم أعطِ أحداً من البشر اهتماماً وعطفاً وحباً كما أعطيتُ ابنتي، وأتوقع أن لا أحزن على أحد قدر حزني على ابنتي إن أصيبت بمكروه لا قدر الله.
الأمومة ليست كأي شعور في الحياة ولا تشبه أي حب ولا تُعوض بأي شيء آخر، بها تكتمل أنوثة المرأة وسعادتها، تضيف لحياة الزوجين طعماً رائعاً لا يضاهَى، فتقربهما من بعضهما ويسعيان سوياً لإسعاد الأبناء والقيام على راحتهم، ينتظران منهم الجديد ويفرحان به.
كنتُ اسأل نفسي ما المميز في أن يحبو طفلي! أو ما المثير حين أراه يرفع رأسه أو يتشقلب؟! إنها حركات عادية وكل الأطفال سيمرون بنفس مراحل التطور هذه، في الحقيقة أن الأهل لا يرون أطفالهم مجرد أطفال عاديين كما ينظر لهم الآخرون، الأبوان يريان أطفالهم مختلفين تماماً لا يشبهون أحداً من الأطفال، أطفالهم هم الأجمل والأذكى والأوعى، ولو قام طفل آخر بنفس ما قام به طفلهم لوجدوا ما عند طفلهم أجمل .
كما لو أنك وضعت بذرة في التربة واعتنيت بها وسقيتها وتابعت نموها ساعة بساعة كم ستكون فرحتك حين ترى أول عود أخضر يشق التربة ليخرج إلى العالم وكم ستكون فرحتك حين تظهر أول ورقة ثم أول زهرة.. وستكون أول ثمرة أنتجتها نبتتك لها طعم آخر ، وماذا ستفرق ثمرة العدس مثلا هذه عن ملايين حبات العدس الأخرى؟ هكذا سيسألك من لم يجرب وهكذا كنت أنت قبل أن تجرب، لكنك بعد هذه التجربة أصبحت تستشعر قدرة المولى عز وجل في خلق الكون، ستصبح أكثر تأملاً وأعمق يقيناً، تمر على الحقول فترى عظمة المولى تعشق الأرض التي أنبتت لك ثمرتك.. هكذا هي الأمومة بشكل بسيط، لن يكون مثل ذلك تماماً لكنه أقرب مثال يمكن أن يجربه الجميع.
يقترب الأبوان مع قدوم طفلهما الأول من عالم الأطفال المثير ويتفاجآن بعظمته وروعته وروعة الحياة فيه، يستغربان كيف لم ينتبهان له من قبل؟! مع أنه موجود في أغلب البيوت والعائلات. عالم الأطفال يختلط فيه الحب بالبراءة والعفوية، الذكاء والتخطيط بالتلقائية، الوعي والإدراك بالسجية البحتة، ويظلان يكتشفان عالم الأطفال مع كل طفل جديد يُرزقانه.
أين كنَّا وأين كان عقلنا حين نظرنا للأطفال بهذه النظرة القاصرة السطحية؟! ونسينا أننا فلذات أكباد أباءٍ شعروا بمثل ما نشعر به تماما مع أبنائنا بل وأكثر!
أين عقل من يثور على والديه بكلمة لا تليق!! لماذا لم يحترم المشاعر العظيمة التي جعلته رجلاً وجعلتها امرأة!.. لماذا لم يقدِّر الحب العظيم الذي أُفيض عليه حتى اشتد عوده! أم يحسب أنه سيقف على قدميه وحده دون أبويه؟!
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ...) يقول سيد قطب –رحمه الله- : (يبدأ بالوصية بالوالدين. وكثيرا ما ترد هذه الوصية لاحقة للكلام عن العقيدة في الله أو مصاحبة لهذا الحديث. ذلك أن وشيجة الأبوة والبنوة هي أول وشيجة بعد وشيجة الإيمان في القوة والأهمية، وأولاها بالرعاية والتشريف.
وفي هذا الاقتران دلالتان: أولاهما هي هذه. والثانية أن آصرة الإيمان هي الأولى وهي المقدمة، ثم تليها آصرة الدم في أوثق صورها..
"رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ"..
دعوة القلب الشاعر بنعمة ربه، المستعظم المستكثر لهذه النعمة التي تغمره وتغمر والديه قبله فهي قديمة العهد به، المستقل المستصغر لجهده في شكرها. يدعو ربه أن يعينه بأن يجمعه كله: "أَوْزِعْنِي".. لينهض بواجب الشكر فلا يفرق طاقته ولا اهتمامه في مشاغل أخرى غير هذا الواجب الضخم الكبير.
"وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ"..
وهذه أخرى. فهو يطلب العون للتوفيق إلى عمل صالح، يبلغ من كماله وإحسانه أن يرضاه ربه. فرضى ربه هو الغاية التي يتطلع إليها. وهو وحده الرجاء الذي يأمل فيه.
"وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي" ..
وهذه ثالثة. وهي رغبة القلب المؤمن في أن يتصل عمله الصالح في ذريته. وأن يؤنس قلبه شعوره بأن في عقبه من يعبد الله ويطلب رضاه. والذرية الصالحة أمل العبد الصالح. وهي آثر عنده من الكنوز والذخائر).
رب احفظ لنا والدينا وأعنَّا على بِّرهم وارزقنا رضاهم وأصلح لنا ذرياتنا وأكرم بالذرية الصالحة الطيبة المباركة كل زوجين .