عرّجت في منافذ التاريخ الغابر، وقلّبت بين صفحات الزمان الماضي، وجُلتُ بين قصور القياصرة، وطوّفت بين عروش كسرى، إلى أن وصلتُ إلى أعتاب النيل وقصور الفراعنة، أبحث عن حقيقة بناء الحياة... فما وجدتها غير أوهام نُسجت معابدها وهياكلها ورُفعت تيجانها بألوان من الظلم والاضطهاد وقهر العبيد...
وهممتُ بأن أعود منكفئة خائبة على وجهي لــــــولا نور صدع في الآفـــــــــاق فاستوقفني... وشــــــدني إليه بقوة وأرغمني على الانعطاف نحوه، فعشتُ دهراً في ظلاله أستقي من فيض ضيائه... ثم عدتُ إلى الحاضر...
عدتُ إلى هنا حيث يعيش العالم انعطافات في الحياة بحثاً عن معانيها، حيث ما زلنا نشهد ربيعًا قد تلونت آفاقه بلون الطهر والإباء والعزة والجهاد وتفوح في الآفاق أشذاء نسائم الحرية... وما زال دولاب الرحى يدور هنا وهناك مفتتًا عرى البلاد ومدمياً جراح العباد...
فمِن سائل: أين صلاح؟ ومن مستنجد بإمام!!! ومن طالب للحياة... وممن تُطلب الحياة؟
إنّ الحياة ملك لله وحده: {ولله ملك السموات والأرض}، يهبَها لمن يشاء; أما الذين يظنون أنهم منحوا الناس في يوم من الأيام إكسير الحياة وأنهم ملكوا البلاد واستعبدوا العباد، وأنهم ملكوا في أجوافهم قلبيْن وازدادوا من الفكر عقلين... فدأبهم العيش بوجهين والتبدل بين زِيَّيْن، هم الذين قال الله في وصفهم: {ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا} (النساء, آية 150) مذبذبين بين الكفر وادعاء الإيمان، فـ {أولئك هم الكافرون حقا} كما قال عنهم الله سبحانه وتعالى (النساء، آية 151).
إنّ هؤلاء تغشّاهم العمى مرتيْن: مرة عندما ظنوا أنفسهم يسيرون في طريق الهدى! ومرة عندما ظنوا أن ناظرِيهم في عمى!
لقد ماتت قلوبٌ نمت بغذاء الدنيا وفاكهتها، وأُشربت الهوى، وترعرعت على حب الشهوات وطلب المحرمات، فانطفأت منها أنوار الحياة، وباتت تعشق سواد الموت في الحياة ولذّتها في ملء كؤوس الناس بالظلم والتعذيب والتنكيل... وكل ذلك تحت مسمى: «الحفاظ على الحياة»، لقد سَكِر أولئك في غياهب الظلم وظلماته، ولا أمل لحياتهم بعد اليوم وقد شيّعتهم نفوسهم الدنية إلى مقابر الجاهلية.
إنما الحياة لمن تغلغل الإيمان في قلبه فأحيا نفسه بها، كما قال الله فيه: {أفمن كان ميتاً فأحييناه؟}، عاش بالإيمان فاستنار وأنار، وكانت له الحياة الحقيقية في قلبه، ونعيمه وبهجته وسروره بالإيمان ومعرفة الله ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، حياته في حركة القلوب في مسار العهد مع الله، والثبات عند الشدائد والابتلاءات، والنصر من الله على النفس والشهوات، وقهر للعدو في ساحات الوغى.
فصبراً إخوتنا في الدين فما هذه الحياة إلا متاع وغرور، من ذاق فيها حقيقة الإيمان عاش برياض الجنان، ومن صدّ قلبه وفكره بات في ضنك الدنيا وإن ترفّل في زينة الأثواب وتعطر بألوان الحياة!