إن من عظائم الأمور وكبائر الذنوب التي تُهلك صاحبها، وتُفسد عليه أعماله: تلك الخصلة الذميمة: العُجب(1)؛ قال الراغب الأصفهاني: "العُجب ظن الإنسان في نفسه استحقاق منزلة هو غير مستحق لها، قال بعضهم: هو استعظام النعمة والركون إليها، مع نسيان إضافتها إلى المُنعم عز وجل.
قال الله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة:25]، وقال تعالى عن قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78].
وقال تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} [الكهف:34-35].
فلما أُعجب بما عنده نسي أن هذا فضل الله عليه، وأن الذي أعطاه قادرٌ على أن يأخذه ويعود فقيراً كما كان، فكانت عاقبة ما ذكره الله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:42].
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يمشي في حُلّةٍ تُعجِبُه نفسه، مرجل جُمّتَه(2)، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل(3) إلى يوم القيامة"(4).
وروى البزار من حديث أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو لم تكونوا تذنبون، لخشيت عليكم ما هو أكبر منه: العُجب"(5)، وروى البزار من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث مهلكات: شُح مطاع، وهوى مُتبع، وإعجاب المرء بنفسه"(6).
ورُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "الهلاك في شيئين: العُجب والقنوط"(7)، وقال ابن قدامة رحمه الله: "وأعلم أن العُجب يدعو إلى الكِبْر لأنه أحد أسبابه، فيتولد من العُجب الكِبْر، ومن الكِبْر الآفات الكثيرة، وهذا مع الخلق؛ فأما مع الخالق: فإن العُجب بالطاعات نتيجة استعظامها، فكأنه يمُنُّ على الله تعالى بفعلها، وينسى نعمته عليه بتوفيقه لها، ويعمى عن آفاتها المفسدة لها؛ وإنما يتفقد آفات الأعمال من خاف ردّها دون من رضيها وأعجب بها، والعُجب إنما يكون بوصف كمال من علم أو عمل؛ فإن ضاف إلى ذلك أنه يرى حقاً له عند الله إدلالاً، فالعُجب يحصل باستعظام ما عُجب به، والإدلال يُوجب توقع الجزاء، مثل أن يتوقع إجابة دعائه وينكر رده"(8). اهـ.
وعلة العُجب: الجهل المحض، وعلاجه: المعرفة المضادة لذلك الجهل، أي: معرفة بأن ذلك الذي أثار إعجابه نعمة من الله عليه من غير حق سابق له، ومن غير وسيلة يدلي بها، ومن ثم ينبغي أن يكون إعجابه بجود الله وكرمه وفضله؛ وإذا تم علم الإنسان لم ير لنفسه عملاً ولم يُعجب به؛ لأن الله هو الذي وفقه إليه، وإذا قيس بالنعم لم يفِ بمعشار عشرها، هذا إذا سلم من شائبة وسلم من غفلة، فأما والغفلات تحيط به، فينبغي أن يغلب الحذر من رده، ويخاف العقاب على التقصير فيه: هذا في علاج العُجب إجمالاً، أما علاج حالاته تفصيلاً: فإن ذلك يختل باختلاف ما يحدث به العُجب، فإن كان ناشئاً عن حالة البدن وما يتمتع به صاحبه من الجمال والقوة ونحوهما، فعلاجه التفكير في أقذار باطنه، وفي أول أمره وآخره، وفي الوجوه الجميلة والأبدان الناعمة، كيف تمرغت بالتراب وأنتنت في القبور حتى استقذرتها الطباع؟! وإن كان العُجب لكثرة الأموال والأولاد والخدم والأقارب والأنصار فعلاجه أن يعلم ضعفه وضعفهم، وأن للمال آفات كثيرة وأنه غادٍ وراح ولا أصل له.
ومر بالحسن البصري شاب عليه بزة له حسنة، فدعاه فقال له: "ابن آدم مُعجب بشبابه، مُحب لشمائله، كأن القبر قد وارى بدنك، كأنك قد لاقيت عملك، ويحك داوِ قلبك فإن مراد الله من العباد صلاح قلوبهم"؛ قال مسروق: "كفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلاً أن يُعجب بعمله"(9).
قيل للحسن البصري: "مَن شر الناس؟ قال: مَن يرى أنه أفضلهم، وقال بعضهم: الكاذب بنهاية البعد من الفضل، والمُرائي أسوأ حالاً منه لأنه يكذب بفعله وقوله، والمُعجب أسوأ حالاً منهما لأنهما يريان بفعله وقوله: والمُعجب أسوأ حالاً منهما لأنهما يريان نقص أنفسهما ويريدان إخفاءه، والمُعجب عمي عن مساوئ نفسه ورآها محاسن وسُر بها، وقد قال إبليس: إذا ظفرت من ابن آدم بثلاث لا أطالبه بغيرها: إذا عجِب بنفسه، واستكثر عمله، ونسي ذنوبه"(10).
والخلاصة:
"أن العُجب آفةٌ كبيرةٌ ومرضٌ خطير من أمراض القلوب، وإن لم يتداركه صاحبه فإنه يهلكه، ويكون سبباً في بطلان عمله وسقوطه من عين ربه".
____________________
(1) الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص306.
(2) هي مجتمع الشعر إذا تدلى من الرأس إلى المنكبين.
(3) المراد أنه ينزل في الأرض مضطرباً متدافعاً.
(4) ص1132، برقم 5789، وصحيح مسلم ص866، برقم 2088.
(5) كشف الأستار (4/244) برقم 3633، وقال المُنذري في كتابه الترغيب والترهيب (3/545-546): رواه البزار بإسناد جيد.
(6) (1/59) برقم 80)، وصححه الشيخ الألباني السلسلة الصحيحة برقم 1802.
(7) مختصر منهاج القاصدين، ص298-299.
(8) المرجع السابق نفسه.
(9) بتصرف واختصار من كتاب نظرة النعيم (11/5357-5358).
(10) الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص306-307.