تعريف وتمهيد
الأوليات: هي الأعمال والأنشطة التي حقها التقديم على غيرها.
وتقديم الأهم على المهم والفاضل على المفضول حقيقة شرعية، وبدهية عقلية.
ومراتب الأعمال متفاوتة؛ فمنها ما يكون من الأركان، ودونها الواجبات، ثم دونها السنن... وهكذا.
وكذلك مصالح العباد متفاوتة؛ فقد بيَّن الأصوليون أنها ثلاث مراتب: فأعلاها الضروريات، تليها الحاجيات، ثم التحسينيات.
فإذا تعارضت الأعمال أو المصالح، أو تعسَّر الجمع بينهما؛ فإن الواجب تقديم الأوْلى فالأوْلى؛ فلا يجوز تقديم الواجب على الركن؛ كما لا يجوز تقديم النفل على الواجب.
مفاسد غياب فقه الأوليات:
غياب فقه الأوليات باب من أبواب الانحراف والاضطراب، ويؤدي إلى مفاسد عظيمة على مستوى الأفراد والمؤسسات، ومن هذه المفاسد:
1- سوء فهم الشريعة:
حيث تُنَزَّل الشريعة في غير منازلها المأمور بها؛ وذلك "يؤدي إلى فوضى فكرية عارمة تشوِّه الشريعة وتخل بتوازنها، ولقد أرسى الشرع بين المأمورات والمنهيات توازناً لا يجوز الإخلال به؛ تماماً كنسب الدواء الواحد، قد يؤدي تغيرها إلى إفساده وإلغاء خصائصه، إن لم ينقلب إلى سم قاتل" (فقه مراتب الأعمال، د. سعد الدين العثماني).
2- ضياع الأجر:
فالجاهل بمراتب الأعمال يهتم بالعمل قليل الأجر على حساب كثير الأجر، ويضيع الجهد الكبير للحصول على حسنات قليلة (فقه مراتب الأعمال).
3- الاضطراب الدعوي:
إن المتابع للواقع الدعوي اليوم يلمس قصوراً بيناً في معرفة مقاصد الشريعة وأصولها وأولياتها؛ مما أدى إلى اضطراب واسع في كثير من البرامج والأنشطة، واستهلاك كبير لكثير من الطاقات البشرية والموارد المادية في أمور غيرها أوْلى منها.
4- تشتيت جهود الدعاة والمؤسسات الإسلامية:
إن اتفاق الدعاة والمؤسسات الإسلامية على تحديد الأوليات يقوي ثمراتها، ويرسخ جذورها، ويجعلها -بإذن الله تعالى- متراصة متماسكة تتعاون في تحقيق أولياتها بيسر وسهولة. أما اختلاف الدعاة والمؤسسات الإسلامية في تحديد الأوليات فإنه يضعف من أنشطتها، ويفرق من ثمراتها، ويجعلها تسير في طرق متباينة متباعد.!
5- إهدار الأوقات:
إن تقديم المهم على الأهم، والمفضول على الفاضل يطيل الطريق على الدعاة والمؤسسات الإسلامية، ويهدر أوقاتاً كثيرة كان يمكن أن تستثمر في الأصلح والأنفع للأمة. ولهذا كان من فضل الله على العبد أن يبصِّره بأفضل الأعمال، ويثبِّته عليها.
6- البعد عن مدارج الكمال:
فكلما اشتغل المرء بالمفضول على حساب الفاضل، وبالمهم على حساب الأهم؛ ابتعد عن مدارج الكمال، ومنازل العلو والرفعة. قال الإمام أبو عبيدة: «من شغل نفسه بغير المهم أضرَّ بالمهم» (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع).
ضوابط تحديد الأوليات:
1- الاعتماد على المصادر الأصيلة في الاستدلال والتلقي:
لقد بليت الأمة الإسلامية بألوان وألوان من التفرق والاختلاف، وأصابها ما أصابها من الانحراف والبعد عن دين الله تعالى، وأصبحت الأوليات الدعوية تُحدَّد في كثير من الأحيان بناء على الاجتهادات والأهواء الشخصية، أو بناء على تجارب ورؤى قاصرة ضيقة الأفق.
ولا مخرج للأمة من هذه الكبوة إلا بالعودة الصادقة إلى المصادر الأصيلة للاستدلال والتلقي، وهي الكتاب والسنة، أو ما دلَّ عليه الكتاب والسنة كالإجماع والقياس ونحوهما.
2- النظرة الشمولية للإسلام:
إن من فضل الله تعالى على أمة الإسلام أن جعل هذا الدين ديناً شاملاً لجميع شؤون الحياة، ولا يجوز بحال قصر الدين على شعبة من شعبه وإهمال شعبه الأخرى؛ ولذا قال الله تعالى: {يّا أّيٍَهّا الذٌينّ آمّنٍوا ادًخٍلٍوا فٌي السٌَلًمٌ كّافَّةْ} [البقرة: 208].
قال ابن كثير: «يقول الله تعالى آمراً عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك».
ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الدعاة في هذا الباب:
أ / وضع الجزئيات في موضع الكليات، والاشتغال بها على حساب الكليات.
ب / التهوين من شأن السنن، بل والواجبات أحياناً؛ بحجة أنها من الجزئيات الفرعية.
وكلا هذين الأمرين خطأ بلا شك؛ فكل ما ثبت في الشرع فحقه التقدير، ووضعه في مكانه اللائق به شرعاً، والتوازن مطلوب في إعطاء النصوص حقها علماً وعملاً ودعوة.
3- تقديم ما قدَّمه الشارع الحكيم:
إنَّ من الأصول المقررة عند علماء الإسلام قديماً وحديثاً: وجوب تقديم ما قدمه الشارع الحكيم علماً وعملاًً، وإعطاء كل أمر شرعي حقه من التعظيم والإجلال.
فالدعوة إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، ونبذ الشرك والبراءة منه ومن أهله هي المنطلق والأساس الذي بدأ به جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
4- معالجة حاجات البيئة:
تختلف البيئات من حيث احتياجاتها الدعوية، ومن حيث الانحرافات السائدة فيها، ولهذا يجب أن تحدد الأوليات الدعوية التي تتصدر لها المؤسسات والمراكز الإسلامية بناء على حاجات كل بيئة. فما يجب تقديمه في البيئة العربية قد يختلف عن البيئة في أوروبا الشرقية أو الغربية أو أفريقيا... وهكذا.
5- الموازنة بين المصالح والمفاسد:
فبعض الأعمال والبرامج قد يترتب على فعلها مصالح شرعية أكثر من بعض، والواجب الجمع بينها لتحقيق جميع المصالح قدر الإمكان، وإذا تعذّر الجمع بينها أو تعسر؛ فإن الحكمة تقتضي تقديم الأعمال الراجحة التي يترتب عليها مصلحة أكبر، وتأخير الأعمال المرجوحة التي يترتب عليها مصلحة أقل.
وهكذا عندما يقترن ببعض الأعمال والبرامج شيء من المفاسد؛ فإنها تقدر بقدرها وتدرأ قدر الإمكان.
إنّ من السهل على أكثر الدعاة والمؤسسات الإسلامية أن يفرقوا بين الحسن والرديء، ولكن التفريق بين الحسن والأحسن يحتاج إلى فقه راسخ، وأفق واسع، وبصر عميق.
إن من دلائل الحكمة والرشد والفقه في دين الله تعالى، تقديم العناية بالأعمال والبرامج التي تبنى عليها أعمال كثيرة، ولا يحسن قيامها إلا بإتقانها وإحكامها، والأمثلة التي توضح هذا كثيرة جداً، أذكر منها ما يأتي:
أ- العناية بالبناء المؤسسي المحكم.
ب- العناية بإعداد الدعاة.
ج- العناية بالعلم الشرعي.
7- تقديم الأعمال ذات النفع المتعدي إلى الآخرين على النفع الخاص:
فالذي يتقرب إلى الله تعالى بالعبادة الخاصة مأجور إن شاء الله؛ لكن الذي يتقرب إلى الله تعالى بالجهاد في سبيل الله والسعي في حاجات الناس أفضل عند الله تعالى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله -عز وجل- سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في المسجد شهراً) أخرجه الطبراني في الأوسط.
8- مراعاة قدرات الأشخاص:
تختلف قدرات الناس وملكاتهم باختلاف أشخاصهم؛ فما يصلح لبعضهم قد لا يصلح للآخرين؛ ولهذا كان من الفقه أن يقدم المرء ما يستطيع أن يبدع فيه وينفع به الأمة على الأعمال الأخرى التي نفعه فيها أقل.
9- الإعراض عن المسائل التي لا ينبني عليها عمل جاد:
قال الإمام الشاطبي: «كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي» (الموافقات).
ونحسب أن المؤسسات الإسلامية لو اشتغلت بالمسائل الجليلة التي ينبني عليها عمل مثمر، وتركت الخوض في المسائل النظرية والشكلية، لكانت ثمراتها أكثر نضجاً، وأرسخ جذوراً، وأعظم بركة بإذن الله تعالى.
-----------------
(*) باختصار