في ظل هذه الأجواء الضبابية الغائمة التي تغطي سماء الربيع العربي، ومع تسارع إيقاع تلك الأحداث الدرامتيكية الساخنة، يجد العرب أنفسهم في قلب صناعة الحدث وصياغة القرار بعد أن كانوا في موقف المتفرج عقوداً من الزمن، فهل يا تُرى سيحسنون صناعة تلك القرارات لتشرق شمسهم من جديد؟!
العرب الذين يمتلكون خارطة ذهبية تمتلئ كنوزاً، وتمتد من مشرق الأرض إلى مغربها، وقد لمعت من بين جنباتها أعظم حضارة سادت الأرض، وأُنزلت فيها من السماء أكمل شريعة وضعت للبشر، وقد اختار الله العرب من بين البشرية قاطبة ليوكل إليهم مهام تبليغ شرعة ورفع لواء دينه، بل واختار لكتابه أن يكون بلغتهم وبلسانهم.
وقد كان منشأ التشريعات لأحكام السياسة الدولية وحياً أنزل من فوق سبع سماوات تتناول آياته دروساً وحكماً وأحكاماً لأحداث وقعت في مرابع أرض العرب ليكونوا بذلك خير قدوة ومصدر إلهام للعلوم السياسية لكل شعوب الأرض.
ويعلم الغرب والأعاجم أن عصورهم المظلمة لم تكن لتضيء دياجيرها لولا ذلك القبس الذي استناروا به من مشكاة العلوم الإسلامية وأن الحضارة المدنية التي تكتسح العالم إنما بدأ بها العلماء المسلمون، كما يعلمون جيداً أن الإسلام هو الدين الوحيد المؤهل لأن يحكم العالم وبجدارة؛ لذا هم في خوف دائم منه ووجل.
ولما كان العملاق الإسلامي نائما كانت تخيفهم مجرد فكرة أنه سيصحو يوماً، ولما بدأ يصحو استبد بهم الرعب وأخذ منهم القلق كل مأخذ، فهاهم يجلبون عليه بحيلهم ومكائدهم ليروضوه من جديد، فهل ترى ينجح هؤلاء في ترويضهم له أم أن ذلك العملاق سيعرف قدر نفسه ويصفعهم ثم يدير لهم ظهره ليصنع قراره وشؤونه بعيداً عن تطفلاتهم المقيتة؟!
لكن المتأمل في الواقع يجد أن العرب بعد نجاح ثوراتهم وقدرتهم على الانفلات من الهيمنة الغربية ووصولهم لمفترق الطرق قد باتوا حائرين مترددين وأيضاً متوجسين؛ أيرتمون في أحضان الأتراك ليؤمنوا لهم بعض الحماية التي لن يوفرها لهم المجتمع الدولي ولا المؤسسات الحقوقية والمجتمع المدني، أم أنه من الأفضل أن يشقوا طريقهم بأنفسهم بعيداً عن التأثيرات الخارجية مما يجعل ربيعهم يربو على أرض عربية خالية من سياسات الاستغلال والاستغفال الدولي.
لكن ندرك الآن حقيقة لا جدال فيها أن أرض الربيع العربي قد تحولت إلى مضمار لسباق الإيدولوجيا، ولا سبيل إلى الانعتاق من ربقة هذا التنافس إلا بأن يدرك العرب أنهم الآن يعبرون جسراً تاريخياً مهماً يوشك أن يتهاوى بهم إن كثرت خلافاتهم فوقه، أو أن يوصلهم إلى غايتهم ومبتغاهم إن هم عبروه بلا ضجيج، كما يجب أن يدركوا أنهم على عتبات قرن مختلف عن كل القرون، وأنهم بصدد صناعة عالم جديد يتوقف نجاحه على ما تتوفر لديه من ثروة العقول السياسية.
إن تكوين قيادات سياسية ناجحة وتأهيلها لصناعة المستقبل تعد مهمة تاريخية ومصيرية ملحة لكل العرب، ولاشك أن الأكثر إلحاحاً هو بناء جيل واع قادر على انتقاء صُنّاع القرار وانتخاب النخبة منهم وتمييز القيادات المؤهلة التي يمكنها مستقبلاً أن تقف على قدميها في سياستها الداخلية والخارجية بعيداً عن الارتكاز على عكازة الغرب المفخخة.
وإنه لمن الحكمة أن يُنتقَى من القيادات من كان منهجة بعيد كل البعد عن التأثر والخضوع لسياسة الغرب، ولن يتأتى ذلك للتيارات اليسارية المتطرفة التي لا تمثل إلا نفسها ومن ينتسب إليها؛ فالغالبية العظمى من الشعوب العربية تمقت الليبرالية وترى فيها بوضوح ختم الصناعة الغربية.
وإني أكاد أجزم أن الشعوب العربية المتدينة ـ التي نظمت جموعها في صفوف صلاة الجمعة والتراويح ثم فجرت ثوراتها بعد تلك الصلوات، فكان للمساجد دوراً رائداً ذكرنا بدورها في عهد الصحابة ـ تحلم بان تعيش تحت ظل حكومة إسلامية بكل ما تعني كلمة الإسلام من معنى، ذلك الدين الحَكَم الذي ارتضاه الله لأهل الأرض قاطبة ولم ولن يرضى لهم سواه.
مسلسل الرعب من الإسلام حينما يكون هاجساً مسيطراً على قادة الغرب وصناع قرارهم، فإنما يدل ذلك على يقينهم أن الإسلام هو من يجسد لهم صورة الخطر الحقيقي القادم، واضعين في مخيلتهم قرونا مضت ساد فيها الإسلام الأرض وأقام العدل على جنباتها.
فسياسة العدل الإسلامي التي تتنافى مع سياسة الظلم والاستبداد الغربي الصهيوني هي ما يحاول الغرب وأدها في مهدها بعد أن فشل في محاولته ترويض الأسود الإسلاميين.
فذلك الغرب ومرشدته الصهيونية التي تقحم نفسها في كل ما يختص بالمسلمين من شؤونهم الداخلية والخارجية يريان أن التوجهات السياسية للأنظمة العربية لابد أن تدار بإشرافهما وتحت سيطرتهما باستخدام الطرق الملتوية وبسياسة اختراق الصفوف عن بعد ليتسنى لهما تجميع أكبر قدر من الولاءات العربية والإسلامية وذلك لتكوين جبهة مضادة للأنظمة الراديكالية في المنطقة وما ينطوي تحتها من حركات ومنظمات.
وقد شاهدنا الصهيونية حينما أطلت برأسها على ثورة تونس عندما كانت في بداياتها وهي تبدي قلقها وتخوفها من مستقبل تونس بعد الإطاحة بنظام الرئيس زين العابدين بن علي، وقد دعت المجتمع الدولي إلى منع "الإسلاميين" من السيطرة على السلطة في البلاد، كما ذكرت أيضاً إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي أن المستوى السياسي الإسرائيلي يتابع بتخوف ما يجري في تونس، وذلك في إطار تخوفاته من انتقال السلطة هناك إلى من سمتهم الإذاعة "إسلاميين متشددين".
لذا ستحاول إسرائيل ودول الغرب بشتى الطرق أن تستعيد سيناريو ما بعد انتخابات تونس 1989م، حينما شارك فيها الإسلاميون وبرغم أنهم كانوا القوة الكبرى في الانتخابات إلا أن النتائج لم تكن في صالحهم، بل إن الحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي) قد اتخذ موقفاً هجومياً قاسياً حينذاك ضد الإسلاميين الذين كانوا القوة الأكبر أيضاً في المعارضة.
ثم بدأ بعدها الغرب يقدم إمداداته المالية وقروضه الضخمة للحزب الحاكم في تونس بهدف القضاء على الأصولية الإسلامية والتخلص منها على مستوى العالم العربي ككل تحت مؤامرة خبيثة سموها "خطة تجفيف الينابيع " بقصد القضاء على مصادرها الفكرية والدينية.
ومازال مسلسل الرعب من الإسلاميين مستمراً، وها هو التاريخ يعيد نفسه وها هي الأحزاب الإسلامية تعاني مرة أخرى، فهل سيستفيد الإسلاميون من الدرس ويكونوا على حذر من أن يعيد الغرب خططه الماكرة؟! فما أشبه الليلة التي هرب فيها الرئيس بالبارحة التي خُلع فيها أبو رقيبة من الحكم ليحل محله أحد الذين حملوا لواء الدفاع عن تونس ضد المحتل الفرنسي حتى الاستقلال، وهو زين الهاربين الذي كان يرفع شعارات التغيير ولإصلاح والديمقراطية والعهد الجديد فعُقدَت عليه الآمال، واستقبله الآلاف بالورود والياسمين، وظن بعض أفراد الشعب (الذي أنهكته الديكتاتورية) أنه بقدوم ذلك القائد ستنتعش قواه، وأن الربيع الديمقراطي سيحل معه على أرض تونس الخضراء، ولم يتنبه الكثير منهم إلى أن بطلهم الذي علقوا عليه آمالهم حينذاك لم يكن سوى صنيعة فرنسية أمريكية صهيونية دمرت البلاد وآذت العباد.
لكن السؤال المحير:ألم يكن القمع الديني للإسلاميين في عصر الديكتاتورية أحد أسباب الثورة؟
ألم يرى العالم ساحات التحرير وقد تحولت إلى جوامع إسلامية تعج بمئات الألوف من المصلين، وتضج مدوية بصدى التكبير في كل حين؟!
ألم تكن المساجد قلعة للثوار يستهدفها الطغاة ومعارضي الثورة، ويدكون بالمنجنيق مآذنها!
أنسيَ الثوار خُطب الجمعة التي كانوا يستلهمون نور ثورتهم من شعاعها؟
فما الذي أقحم الأحزاب الليبرالية والمعتدلة التي تفصل الدين عن الدولة وهو أساس قيامها!
وما الذي جاء بمن صُنعوا في الغرب ليقتحموا صفوف تلك الثورات ويصعدوا على أكتافها ليجنوا ثمار الربيع العربي ولينصبوا أنفسهم صناعاً للقرار في العالم الإسلامي؟!