لطالما استوقفتني هذه الآية الكريمة كلما مرت بي تلاوتها في كتاب الله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 121]، متسائلاً: هل نحن نتلو كتاب الله تعالى كما أمر الله "حق تلاوته"؟!
ويزداد هذا السؤال إلحاحًا مع تقصيري أولًا بهذا الواجب، وازدياد رؤيتي وسماعي لكثير من المسلمين الذين يتلون كتاب الله تعالى، فلا أجد في تلك التلاوة مواصفات "حق التلاوة" التي أمرنا الله بها، خاصة إذا قارناها مع تلك التلاوة التي وردت عن السلف الصالح، أو حتى مع تلاوة العلماء الثقات من العصر الحديث، ممن هم على قيد الحياة، أو أضحوا في عداد الأموات، ممن نحسبهم – ولا نزكي على الله أحدًا – أنهم كانوا يتلون كتاب الله حق تلاوته.
إن حق التلاوة الذي ورد في الآية الكريمة يشمل الكثير من الحقوق، فهناك حق التلاوة الذي يزيد المؤمن إيمانًا ويقينًا بعقيدته، وهو ما قاله الحسن البصري في تفسير الآية : "يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، يَكِلُونَ ما أشكل عليهم إلى عالمه". (تفسير ابن كثير).
وهل ما ذكره الحسن البصري من العمل بالمحكم والإيمان بالمتشابه مع وكل ما أشكل منه إلى عالمه .....إلا أبرز سمات ومعالم عقيدة أهل السنة والجماعة، والتي تختلف بشكل كبير عن عقيدة المتكلمين وأصحاب البدع .
والحقيقة أن هذا الحق من حقوق تلاوة كتاب الله تعالى لا يدانيه حق، خاصة في هذا الزمن الذي تكاثرت فيه التيارات الفكرية والفلسفية التي من الممكن أن تؤثر على صحة عقيدة الكثير من المسلمين، وهو ما يستوجب منهم العناية بهذا الجانب، من خلال العودة إلى عقيدة السلف الصالح المستقاة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتلاوة كلام الله "حق تلاوته" عقديًا .
وإذا انتقلنا إلى معنى آخر من معاني "حق تلاوته" الوارد في الآية، ألا وهو معنى التفاعل والحضور أثناء تلاوة كتاب الله، فلا يخفى ما لهذا المعنى من أهمية، في زمن ازداد فيه تأثير الجانب المادي على الجانب القلبي والروحي، وأضحى الكثير ممن يتلون كتاب الله من المسلمين، يفتقدون إلى هذه السمة، التي بدونها تكون التلاوة صورية شكلية لا روح فيها ولا حياة .
لقد بيّن لنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه معنى قوله تعالى : {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ}فقال: "إذا مر بذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار". (تفسير ابن كثير).
وهو معنى يتوافق مع حديث حذيفة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى فكان إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب استجار، وإذا مر بآية فيها تنزيه لله سبح. صحيح ابن ماجة للألباني.
إنها التلاوة التي يستشعر فيها المسلم أن المتكلم فيها رب العالمين وإله الناس أجمعين، فيخشع القلب والجوارح عند ذكر الموت ومواقف لقاء الله تعالى والحساب، فيسأل الله الرحمة والعفو والمغفرة، وتقشعر الأبدان والأعضاء عند ذكر الجحيم والنار، فيستجير بالله من عذابها، وتتأثر العين مع آيات الخوف والرجاء فتدمع، فيكون التفاعل في التلاوة كاملًا شاملاً، بين العقل والقلب، والروح والجوارح .
أما المعنى الثالث والرابع لحق تلاوة كتاب الله تعالى، فهو حق تلاوته كما أنزل، وحق التطبيق على أرض الواقع بعد تلقي الأوامر والنواهي الإلهية، ويشير إلى هذا المعنى قول ابن مسعود رضي الله عنه في تفسير الآية : {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ }: والذي نفسي بيده ، إن حق تلاوته أن يُحِلَّ حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله ، ولا يحرف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول منه شيئًا على غير تأويله. (تفسير ابن كثير).
1- أما تلاوته كما أنزل فمعناه أن يتلوه دون لحن أو تصحيف أو تحريف، سواء للأحرف أو للحركات والسكنات، ناهيك عن مراعاة أحكام التجويد عند التلاوة، والتي هي واجب عند تلاوة القرآن الكريم، كما يؤكد ذلك ابن الجزري رحمه الله بقوله:
والأخذ بالتجويد حتم لازم *** من لم يجود القرآن آثم
لأنه به الإله أنزلا *** وهكذا منه إلينا وصلا
والحقيقة أن الكثير من مسلمي العصر الحديث مقصرون في هذا الجانب، رغم أن أسبابه ميسورة، وتكاليفه لا تتعدى تفريغ بعض الوقت لتصحيح التلاوة على يد حافظ مجاز، أو متقن للتلاوة وإن لم يكن مجازًا .
والمؤسف أن يتجاوز هذا التقصير عامة المسلمين إلى خاصتهم، من الأئمة والخطباء والدعاة ممن يأمون الناس في الشعائر الإسلامية كالصلاة وخطبة الجمعة، أو يتصدرون مجالس الدعوة إلى الله في المساجد أو في وسائل الإعلام، فلا تكاد تستطيع حصر الأخطاء التجويدية في التلاة لأحد هؤلاء من كثرتها، اللهم إن لم يصل الأمر إلى الخطأ في الحركات والسكنات، فأين "حق تلاوته" من تلك القراءة ؟!
2- وأما فيما يخص "حق تلاوته" عملًا وتطبيقاً، والذي أشار إليه ابن مسعود رضي الله عنه، فهو في الحقيقة غاية المقصود وجوهر وحقيقة المطلوب، وإذا كان إتقان التلاوة تجويدًا وترتيلًا من الوسائل والأدوات، فإن العمل والتطبيق من المقاصد والغايات .
وهنا لا يمكن إنكار وجود فجوة كبيرة عند المسلمين بين ما يتلونه من كتاب الله، وبين ما يقومون به من سلوك وممارسات على أرض الواقع، تخالف وتناقض تمامًا ما هم يتلون، فالسلوك والعمل لا يتطابقان مع ما يأمر القرآن الكريم أو ينهى .
فبينما يتلو المسلمون في القرآن الكريم الأمر ببر الوالدين في أكثر من آية، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23]، نرى العقوق الذي يتجاوز كلمة "أف" المنهي عنها في القرآن الكريم بمراحل ... يزداد يومًا بعد يوم في صفوف الأبناء .
وبينما يأمر الله تعالى بصلة الرحم وتوزيع الميراث حسب ما أمر الله في كتابه في أكثر من آية من سورة النساء، قال تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 11]، ترى الأرحام تتقطع بين المسلمين لأتفه الأسباب، وتُحرم النساء من الميراث في كثير من ديار المسلمين، اللهم إن لم يصل الأمر إلى أكل الأخ الكبير حقوق إخوته الصغار من الميراث .
وبينما ينهى القرآن -الذي يتلوه المسلمون- عن الربا وأكل أموال الناس بالباطل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]، وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة/188]، لا نرى تجاوبًا عمليًا مع هذين النهيين ممن يتلون هذه الآيات من المسلمين على أرض الواقع.
إنها بعض المعاني التي يتضمنها قوله تعالى: { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ}، والتي تستحث المسلمين لمزيد من العناية والاهتمام بتلاوة القرآن الكريم، وتدفعهم لتفريغ الوقت والفكر عند إرادة تلاوة كلام الله، ناهيك عن التركيز عقلًا والحضور قلبًا والخشوع جوارحًا والبكاء عينًا أثناء التلاوة، لنجد السعادة الحقيقية التي طالما نبحث عن بعضها في الأسباب الدنيوية .