الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد:
فإنَّ من أهم عقائد أهل السنة وخصائصهم: التسليم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنًا، وعدم معارضتهما بعقل مزعوم، ولا قياس موهوم، ولا قول بشر، ولا غير ذلك.
فإذا اطمئن المسلم إلى أنَّ هذا هو حكم الشرع في مسألة -من خلال أقوال أهل العلم، وبيانهم- فلا يجوز له معارضته، أو ترك الأخذ به؛ فكلام الله وكلام رسوله هو الأصل الذي يعتمد عليه، وإليه يرد ما تنازع الناس فيه، فما وافقه كان حقاً، وما خالفه كان باطلاً؛ وذلك أنَّ أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم، ولا خير ولا هدي فيما عارضهما.
قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
قال ابن كثير في "تفسيره": " يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة: أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا؛ ولهذا قال: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة".
وقد جعل الصحابة الكرام، وأهل العلم من بعدهم هذه الآية هي أساس منهجهم، فضربوا أروع الأمثلة في التسليم لنصوص الشرع؛ لأنهم أيقنوا أن التسليم للشرع هو الطريق الذي فيه النجاة، وأنه الثمرة الحقيقية لمحبة الله تعالى، ومحبة رسوله صلى الله عليهم وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
فضربوا بذلك اروع الأمثلة في الاستسلام للوحي والتسليم لأوامر الشرع، دون اعتراض أو تلكؤٍ، ومن ذلك:
تركهم لشرب الخمر عند نزول قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فقالوا: "انتهينا انتهينا"، مع ما في ذلك من مشقة ومخالفة هوى؛ لتجذر هذه العادة في نفوس العرب في ذلك الوقت.
ولما نزلت آية الحجاب تخاطب المؤمنات: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ...} [النور:31] فما كان من الصحابيات رضي الله عنهن إلا أن شقق مُروطهن (وهو الإزار) فاختمرن بها، مع ما في ذلك من صعوبة ومشقة على النفس.
ويبلغ بهم الانقياد بهم مبلغه في ترك ما قد يتوهم الشخص أنه الأفضل أو الأنسب عقلاً، قال علي رضي الله عنه: (لَوْ كَانَ الدِّينُ بِرَأْيٍ كَانَ بَاطِنُ الْقَدَمَيْنِ أَحَقَّ بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِمَا، وَلَكِنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ ظَاهِرَهُمَا) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف.
ولاشك أن الدنيا مليئة بالابتلاءات التي لا يسلم منها أحد، ولو ترك العبد نفسه أمامها دون منهج سليم يتعامل بها معه، فإنه سرعان ما تتخاطفه الفتن وتعصف به، وتحرفه عن المنهج القويم، ومن لم يسلم أمره للشرع سلَّمه لغيره؛ وقع في المعصية والإثم، والتخبط والاضطراب.
ومن أعظم ما ينبغي مراعاته في هذا الوقت المليء بالفتن والأحداث صَبر النفس على الأخذ والتعامل بالشرع، مهما بدا فيه من صعوبة ومشقة، والحرص على تربية النفس والناس على ذلك في جميع مناحي الحياة؛ لعل ذلك مما يسهم في بناء مجتمعٍ سليمٍ مؤمنٍ بمشيئة الله تعالى.