عادة ما نستثقل الشدائد, وننوء من ثقل الهموم , ونمل من طول الابتلاء , ونسارع برفع الأكف بالدعاء لتفريج الهم , وإبعاد الكرب , ونهاية عهد الابتلاء !
عادة المرء هكذا, لأنه ضعيف النظر بما يصلحه, قليل العلم بما هو أفضل له, عجول فيما يظنه كسبًا له ونفعاً, جهول بالصواب , مستدع للراحة والدعة.
إن للكون ربًا عظيمًا يدبر شأنه, وهو سبحانه رقيب خبير بعباده, يبتليهم فيختبرهم فيقربهم إليه, فيرفع درجتهم, وينقيهم, ويطهرهم, ويخرج منهم تعلقهم بالدنيا الفانية, إلى تعلق بالحياة الباقية والسعي للجنة العالية .
وبينما الباطل ينتفش, وأهل الحق يتضاوون ألمًا, ينقر الشيطان في قلوبهم بوسوسته, فيلقي فيها التردد والشك, ألسنا نستحق النصر ؟! ... ألسنا الضعفاء المضارون ؟!.. وربما استمعت قلوب بعضهم لوسوسته فتأثرت سلبًا في طريقها وترددت لحظة عن سبيلها ..
لكن أهل الحق لو تدبروا الموقف لعلموا أنهم في سبيل حق صائب, وطريق منتهاه النور والفوز, ما داموا يبذلون رغبة في رضا الله سبحانه والدار الآخرة , متجردين عن قصد الدنيا ومتاعها , تابعين سبيل نبيهم صلى الله عليه وسلم وداعين الى دينهم على بصيرة وعلم بالحكمة والموعظة الحسنة .
فهم في طابور يقف في بدايته الأنبياء الكرام عليهم السلام, فكم ابتلي الأنبياء , وكم لاقوا المشاق الثقال, بل إنهم ليبتلون أضعاف ما يبتلى غيرهم من المؤمنين, سئل صلى الله عليه وسلم: (أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ) أخرجه الترمذي وابن ماجه .
أما ما يلقون من مشقة الطريق فإنه يحسب لهم في ميزان حسناتهم بكل صغيرة أذى أصابتهم , فينفعهم ذلك اعظم نفع , يقول صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا) أخرجه البخاري .
كذلك فإنهم يضربون المثال والنموذج للناس جميعًا في معاني الثبات على المبادئ الإيمانية العظيمة, تبعًا للصالحين الأولين, الذين حملوا مشاعل الإيمان, فيلحقون بالصالحين في سلوكهم وفعلهم, وصبرهم ويقينهم , فثباتهم على قيمهم ومبادئهم مكرمة عظيمة, ومنقبة لا تدرك .
ولئن كان أصحاب الزخرف الدنيوي حازوا زخرفهم أيامًا قليلات, وفرحوا بما عندهم ساعات, فإن بناءهم زائل, وفرحهم مستحيل إلى هول ثقيل يوم لا ينفع مال ولابنون , بينما الصالحون ينتظرهم الخير الابدي والنعيم الخالد, والمجد الباقي, قال سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
أما دعاؤكم ورجاؤكم أيها الصالحون, فهو لا يذهب سدى ولا يضيع هباء, فإن الله يسمعه, ويستجيبه, لكنه سبحانه يختار لعباده المؤمنين أفضل إجابة, بأفضل حال, فربما أخر لهم ذلك رفعًا لدرجاتهم, وربما دفع عنهم بدعائهم شرًا أكبر قد يحصل لهم في دينهم, وربما قربهم إليه بذلك الدعاء فنالوا بدعائهم أغلى وأعلى ما يتمناه عبد مؤمن من محبة الله سبحانه والقرب منه .