حتى أشد المؤيدين لنظام الإجرام في دمشق، لم يعد بوسعه إنكار حالة التراجع الملحوظ التي يعيشها، فبينما كان بشار يَعِد قبل أسابيع بأنه سيستعيد مدينة الرقة، إذ به يخسر إدلب وجسر الشغور، ويقترب الثوار من حصنه في اللاذقية، فيما تتواصل المعارك في مناطق شتى، وتُمنى المعركة العظيمة التي أطلقها قاسم سليماني في الجنوب بالفشل الذريع، رغم ما حُشد لها من إمكانات، ومن مليشيات تم جلبها من كل أصقاع الأرض، فضلاً عن مقاتلي حزب الله الذي تتواصل فضائحه بعد أن ثبت أنه يزج حتى بالفتيان القاصرين في المعركة.
ليس هذا هو المعلم الوحيد للتراجع، فما جرى لرستم غزالة هو أيضا معلم من معالم تفكك نظام بدأ يأكل أدواته تباعا، إلى جانب صراخ العلويين من حجم الخسائر الكبيرة التي أصابتهم طوال سنوات الحرب، من دون أن تظهر له نتيجة إيجابية. أما الذي لا يقل أهمية فيتمثل في الأزمة الاقتصادية الطاحنة (تدهور أسعار الليرة مقابل الدولار دليل مهم)، وحيث لم يعد بوسع إيران أن تضخ الكثير في ظل أزمتها الطاحنة، بسبب تراجع أسعار النفط، والنزيف الجديد الذي تسبب فيه غرورها في اليمن؛ هي التي دفعت في سوريا بحسب أقل التقديرات 35 مليار دولار إلى الآن.
من السهل على نظام بشار أن يتهم تركيا بما جرى، إلى جانب السعودية، عبر الحديث عن تفاهم ثلاثي مع قطر على إطلاق الموجة الجديدة من التصعيد، الأمر الذي قد يكون صحيحاً بهذا القدر أو ذاك، بل هو طبيعي، فليس من المنطق أن تذهب إيران إلى اليمن، لتلعب بخاصرة السعودية، ولا تذهب الأخيرة إلى سوريا لكي تلقي بثقلها في المعركة، فضلاً عن تركيا التي تريد نهاية لمعركة استنزفتها إلى حد كبير.
على أن الجانب الآخر من المشهد هو أن التراجع لم يعد وارداً في حق الثوار أيضا، وكل هذه التضحيات التي دفعها الشعب، لا يمكن أن تنتهي ببقاء النظام، ولا بد تبعاً لذلك من تصعيد في كل الجبهات لإرهاق جيش مرهق أصلا، ومليشيات بائسة، وضعيفة التدريب إذا استثنينا حزب الله، بخاصة بعد انسحاب المليشيات العراقية التي كان لها دور كبير قبل أن تضطر للعودة إلى العراق لمواجهة الموقف المتفجر هناك.
هل يعني ذلك أن النظام قد بات آيلاً للسقوط في المدى القريب؟
من الصعب الإجابة بنعم، ليس لأنه يملك معالم الصمود، بل لأن إيران لم تسلّم وترفع الراية بعد، بل هي تصاب بمزيد من الجنون، وتشعر أنها أهينت أكثر بعاصفة الحزم، ثم أكثر فأكثر بتقدم الثوار في سوريا، وعليها تبعا لذلك أن ترد الصاع صاعين، ومن يتابع تصريحات زعمائها السياسيين والعسكريين، يدرك أنه إزاء نظام فقد عقله ورشده، وأصيب بحالة من الهستيريا، ولم يعد أمامه غير الهروب للأمام.
ربما كان بالإمكان القياس على ما جرى في 2012 حين تقدم الثوار واقتربوا من دمشق، وصار النظام في وضع أقرب إلى الهاوية، فكان أن تدخلت إيران وحزب الله بكل قوتهم، وتمكنوا من تعديل ميزان القوى، وإدخاله في مربع المراوحة من جديد.
هل يمكن أن يتكرر هذا السيناريو من جديد؟ لا يُستبعد ذلك، لكن إيران 2012 ليست هي إيران 2015؛ لا من حيث القدرة الاقتصادية، ولا من حيث قدرتها على تجييش المليشيات في ظل ما يجري في العراق، وهو الخزان الأكبر.
وهنا يمكن القول: إن الاحتمال الوارد، والذي ينبغي على الثوار وداعميه أن يحسبوا حسابه هو إمكانية أن تزج إيران بقوات مقاتلة من الجيش والحرس الثوري في المعركة، بدل الاكتفاء بالخبراء والضباط الكبار كما هو الحال في الأعوام الثلاثة الماضية، لكن المشكلة في هذا السيناريو أنه سيعزز استنزاف إيران وأزمتها الداخلية، حتى لو تمكن من حماية بشار لمزيد من الوقت، فالشعب الذي يعاني من النزيف الاقتصادي سيعاني أيضا من نزيف بشري، وهو سيبدأ في التحرك رفضاً لذلك، وإذا ما نجح اتفاق النووي وحصل الإصلاحيون على دفعة جديدة، فقد يكون لهم رأي آخر فيما يجري بمرور الوقت.
قلنا قبل 3 أعوام: إن سوريا هي أفغانستان إيران، ولم نكن نتخيل أن الجنون سيضيف إليها اليمن، وها إنها (أي إيران) التي راقبت كيف تورطت أميركا في العراق وأفغانستان، وقبلها الاتحاد السوفيتي، بل كان لها دور في ذلك، تكرر ذات الخطأ، وتقع في نفس المستنقع، من دون أن تتغير النتيجة كثيرا، فلا هي ستحمي بشار، ولا هي ستنجح في دفع مشروع توسعها إلى الأمام، وكل ما يمكنها أن تفعله هو أن تقبل بصفقة متوازنة مع العرب وتركيا في سوريا والعراق واليمن ولبنان، ولكن بعد أن تكون قد كلفت نسفها وكل المنطقة ثمنا باهظا، بل باهظا جدا. إنه ثمن غرور القوة والركض وراء الأحلام المجنونة.