الخميس 18 رمضان 1445 هـ الموافق 28 مارس 2024 م
حدثتني أمي .. في ذكرى مجزرة حماة ١٩٨٢م /
الكاتب : أم أنس
الثلاثاء 21 ربيع الآخر 1436 هـ الموافق 10 فبراير 2015 م
عدد الزيارات : 3792


بعد ٣٣ عاما ..

لا تزال الذكريات الأليمة لمجزرة حماة تنكأ جراحاتها التي لم تندمل بعد ..
فكم من غائب لازالت زوجته وأولاده ينتظرونه ويؤملون حياته بعد هذا الغياب الطويل ..
يكذبون أنفسهم التي تحدثهم بفقد الأمل بغائبهم الذي ينتظرون .. فمن الذي لازال على قيد الحياة بعد عقود من الأهوال في ظلام سجن تدمر وغيره من السجون !!
كم في جعبة كل منا من ذكريات وقصص عاينها أو سمعها من هنا وهناك.
لكن قصة قريبتنا لا تفارق خيالي مع تجدد ذكرى المأساة كل عام ..
قصة من القصص الأليمة التي روتها لنا أمي -رحمها الله- وهي التي عاشت الأهوال وعاينتها وشردت مع من شردوا لمزارع حماة وأريافها تحت وابل النيران وجحيم الطغيان.
حدثتني -رحمها الله- عن ابنة عمها التي قدمت إليهم في حي باب الجسر بعد أن هدأ القصف وسُمحَ التجول لوقت محدود، جاءت لتطمئن على أختها وأقاربها ..
وليتها ما جاءت .. ليتها بقيت في منزلها لئلا ترى ما يشيب لهوله الولدان وما لا تقدر حُرة على معاينته.
مرّت في طريقها على أحياء: العصيدة، والزنبقي، والشمالية، والكيلانية التي أصبحت أثرًا بعد عين، والسخانة، وبين الحيرين ..
لم تكن هذه أول مرة تقطع فيها هذه المسافة، فقد اعتادت عليها قبل المجزرة، لكن رحلتها هذه المرة كانت الأولى والأخيرة في فظاعة مشاهدها.
وصلت إليهم ورجلاها لا تحملانها، لسانها منعقد عن الكلام، ووجهها شاحب وعينها كأنما هي في يوم تشخص فيه الأبصار.
تتابع أمي -رحمها الله- وتقول: هدّأنا من روعها، وآنسناها حتى رجع لها عقلها الذي كادت تفقده.
ما الخبر .. وما الخطب الذي نزل بها؟!

أي رحلة هذه التي أفقدتها صوابها أو كادت!
بدأت المسكينة بالتحدث إلينا بعد تنهيدة طويلة، وعبَراتها تسابق عباراتها، تحاول استجماع قواها لتقوى على الكلام.
سارت في طريقها تقطع الأحياء فوق أكوام من الجثث والأشلاء .. رجال .. نساء .. أطفال .. أيادي .. أرجل .. رؤوس ممزقة .. أحياء مهدّمة .. ماذا تصف امرأة عاينت هذه الأهوال في طريق موحش لوحدها.
رفيقها في الطريق أشلاء ممزقة .. ولربما عرفت بعضهم لو أمعنت فيهم النظر ..
حدثتها نفسها وهي تغالب ضعف المرأة وعجزها، أن تتعرف على بعض الجثث علّها تخبر أهلهم بهم. لكن هول المشهد وخطورة الوضع الأمني لم تمكنها من ذلك. فجلاوزة النظام المجرم وعيونه لازالوا يرقبون كل حركة ..
لم تلبث المسكينة أن استيقظت من هول الصدمة واطمأنت علينا وحدثتنا بأهوال وفظائع ما رأت، حتى عادت أدراجها من حيث أتت.
ترقى جثة وتهبط على أخرى .. أي مشهد هذا الذي يعجز البيان عن وصفه ..
حدثونا عن قتلهم للرجال وإجبار نسائهم على المشي فوق جثث أزواجهن وإخوانهن وأبنائهن حتى تفقد إحداهن عقلها.
لكن أن تسير امرأة لوحدها بين أكوام الجثث والأشلاء.. تقطع الأحياء .. فأي عقل أو قلب يطيق ذلك!
عادت المسكينة إلى بيتها .. مريضة قد تفتت كبدها من هول المشهد ..
مكثت في الفراش لا هي واعية ولا هي غائبة، تتمتم .. تتأوه .. تتألم .. تبكي .. تسكن .. تغيب عن الوعي .. تشتد بها الحرارة .. تنتابها خلجات .. حتى شخص البصر إلى غير رجعة
وماتت بعد أسبوع من زيارتها لنا ..
ماتت .. وكم مات غيرها من نساء وأبناء حماة كثير!
ماتوا كمدا وقهرًا وهمًا وغمًا.. مما رأوه وعاينوه .. في مجزرة غاب عنها ضمير العالم.. ونسيها من سمعها أو تعاطف معها يومًا..
لكنّ من اكتووا بنارها .. وشاهدوا الفطائع بأعينهم .. ولايزالون يكابدون آثارها .. عاشوا أيتامًا أو أرامل .. ولا زالوا ينتظرون غائبًا يمنّون النفس لقياه .. لم ولن تنمحي ذكرى المأساة من حياتهم ..
حتى يقتصوا من الجلاد وزبانيته .. وحتى ينجلي هذا الكابوس عن سوريا .. فتعود لها عزتها وكرامتها وتعود لأهلها بعد أن سلبهم الطغاة إياها.. وما ذلك على الله بعزيز.