هل نطمح أن نرى جيلًا كصاحب النَّقب يحمل روحه على راحته ويلقي بها في مهاوي الرَّدى؛ خدمة لدين الله وإعلاءً لكلمته راجيًا بذلك ما عند الله، ولا يريد من أحد سوى الله جزاءً ولا شكورًا؟
اسألوا الصحراء يا من كان عنا غافلين *** وابحثوا في جوفها تلقوا أسودًا راقدين
تذكر كتب التاريخ قصة مسلمة بن عبد الملك، أحد أبطال الفتوحات في المشرق مع صاحب النقب، حيث حاصر مسلمة حصنًا واستعصى على المسلمين فتحه، فندب الناس -أي أرشدهم ودلهم- إلى نَقْب منه، لعل أحدًا منهم يدخل منه ويقاتل في الداخل ويفتح أبواب الحصن للمسلمين، فما دخله أحد فجاء رجل من عُرض الجيش، فدخله ففتحه الله عليهم: فنادى مسلمة: "أين صاحب النِّقب؟" فما جاء أحد. فنادى: "إني قد أمرت الآذن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاء"؛ فجاء رجل فقال: "استأذن لي على الأمير". فقال له: "أنت صاحب النِّقب؟" قال: "أنا أخبركم عنه"، فأتى مسلمة فأخبره عنه، فأذن له، فقال: "إن صاحب النِّقب يأخذ عليكم ثلاثًا: ألا تُسَوِّدُوا اسمه في صحيفة إلى الخليفة، ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه: ممن هو؟" قال مسلمة: "فذاك له"، قال: "أنا هو". فكان مسلمة لا يصلي بعدها إلا قال: "اللهم اجعلني مع صاحب النقِّب".
هكذا خلد التاريخ ذكر مسلمة في الفاتحين، ومع ذلك يدعو بعد كل صلاة أن يحشره الله مع صاحب النقب الذي كان سببًا في فتح الحصن، ولم يعرف التاريخ اسمه ولا قبيلته -وما ضره ذلك- ولم يكن يريد ذلك لأن الإسلام علمه أن يكون في الصدارة والقيادة والريادة في أداء العمل {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة من الآية:148].
وعلّمه كذلك ألا يطلب محمدةً من أحد مهما كان وأن يكون عمله صالحًا خالصًا لله تعالى لا يُرائي به أحدًا من الخلق، وأن يكون عند توزيع الغنائم وملحقاتها في الصفوف الخفية، ليس لأنه لا يريد مقابِلًا على عمله، بل هو يطمح إلى أكبر من ذلك؛ ولكن الإسلام العظيم علّمه أن لا يطلب ذلك إلا ممن خلقه وأمره بذلك العمل ويسّره له وهو الذي يجزي عليه الجزاء الأوفى، هكذا أنبت الإسلام الرجال العظماء وزرعهم:
تعهدهم فأنبتهم نباتًا *** كريمًا طاب في الدنيا غصونا
هم وردوا الحِياض مباركات *** فسالت عندهم ماء معينا
إذا شهدوا الوغى كانوا كماة *** يدكون المعاقل والحصونا
وإن جنّ الظلام فلا تراهم *** من الإشفاق إلا ساجدينا
إلى أن يقول:
ولم يتشدقوا بقشور علم *** ولم يتقلبوا في الملحدينا
ولم يتبجحوا في كل أمر *** خطير كي يقال مثقفونا
كذلك أخرج الإسلام قومي *** شبابًا مخلصًا حرًا أمينا
وعلمه الكرامة كيف تُبنى *** فيأبى أن يُقيَّدَ أو يهونا
دعوني من أمان كاذبات *** فلم أجد المنى إلا ظنونا
وهاتوا لي من الإيمان نورًا *** وقوُّوا بين جنبيّ اليقينا
أمد يدي فأنتزع الرواسي *** وأبني المجد مؤتلقًا مكينا
هكذا أخرج الإسلام جيلًا يستوي عنده المادح والقادح، لأنه يعلم أنهم لا يملكون من الأمر شيئًا، وأن الأمر كله بيد الله، فتوجه إليه وحده بقلبه وقالبه، وسجل أعظم الإنجازات في سجلات المجد والرفعة ورغب بصدق أن يكون حمله للوائها والإعلان الكبير لمنجزاته بطريقة أخرى مختلفة وعلى رؤوس الأشهاد جميعًا؛ فهانت عليه الدنيا بكل ما فيها ولم تعد تعدل عنده جناح بعوضه.
يقول ابن القيم رحمه الله: "إن الله إذا أراد بعبدٍ خيرًا سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه والإخبار بها من لسانه، وشغله برؤية ذنبه، فلا يزال نُصْبَ عينيه حتى يدخل الجنة، فإن ما تُقبِّل من الأعمال رُفع من القلب رؤيته، ومن اللسان ذكره".
فهل نطمح أن نرى جيلًا كصاحب النقب يحمل روحه على راحته ويلقي بها في مهاوي الردى؛ خدمة لدين الله وإعلاءً لكلمته راجيًا بذلك ما عند الله ولا يريد من أحد سوى الله جزاءً ولا شكورًا؟؟.
تُرى هل يرجع الماضي فإني *** أذوب لذلك الماضي حنينا
أسأل الله لي ولكم من فضله العظيم.