الخميس 19 جمادى الأول 1446 هـ الموافق 21 نوفمبر 2024 م
تأبيد اللجوء السوري
السبت 19 ربيع الأول 1436 هـ الموافق 10 يناير 2015 م
عدد الزيارات : 2926


قبل أيام، وفي 10 ديسمبر/كانون الأول الجاري، أعلن مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين، أنطونيو غوتيريس عن قبول 27 دولة توطين 100 ألف لاجئ سوري على أراضيها. تجيء الخطوة، كما يقول، للتخفيف عن دول الجوار السوري، نتيجة التدفق الذي لا ينقطع للاجئين.


تحفل وسائل الإعلام ومواقع التواصل بأخبار يومية عن اللاجئين السوريين، من أشدها قسوة تلك التي تفد من لبنان، حيث يتم تحميل اللاجئين السوريين (غير المعترف بهم بهذه الصفة) مسؤولية ما ترتكبه "النصرة" بحق جنود لبنانيين، ويتم تجييش طائفي ضدهم منذ بدء تدفقهم إلى جيرانهم، وحرمانهم من أبسط حقوق الإيواء، وممارسة أشكال شتى من العنف العاري ضدهم.
وقد تعرض اللاجئون، منذ نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، إلى محنة وقف العون الطبي لهم، ثم وقف العون الغذائي، قبل أن يعود الأخير جزئيًا، من دون أن يسهم ذلك في وقف حالة شظف العيش التي يعانيها أكثر من ثلاثة ملايين سوري في دول اللجوء التي تتحمل مسؤولية مفاجئة عن أكبر حالة طوارئ إنسانية يشهدها عصرنا، وفق تعبير مفوضية اللاجئين. هذا ناهيك عمن يخاطرون بحياتهم في البر والبحر، ولا يتمكنون من العبور الآمن والدخول الشرعي إلى دول شقيقة.
دول الجوار، وبالذات في لبنان والأردن، تتحدث عن أعباء اللجوء والضغوط التي تمارس على الخدمات الأساسية، وذلك مع ازدياد عدد السكان بنسبة تقارب 10% في الأردن، و20 % في لبنان.
وهي، بلا شك، نسبة كبيرة، في بلدين يعانيان من ظاهرة الفقر والبطالة والمديونية، غير أن اللاجئين لا يتحملون مسؤولية هذه الظاهرة، فهم، في جميع الأحوال، ضحايا مقتلعون من ديارهم، والمسؤولية تقع على النظام في بلدهم الذي تعامل، منذ البدء، بحل عسكري مع ظواهر احتجاجية مدنية، قبل أن يتفاقم الوضع، ويتم دفع الانتفاضة المدنية دفعًا نحو العسكرة.
وتكمن محنة اللاجئين، في بعض وجوهها، بافتقاد بيئة حاضنة ومتعاطفة، حيث يسهل على كثيرين في أوساط الجمهور تحميلهم مسؤولية صعوبة الأوضاع الاقتصادية في البلاد التي لجؤوا إليها.
نازح سوري لجأ منذ أواخر العام 2012 إلى الأردن تحدث لكاتب هذا المقال، بنبرة تمتزج فيها السخرية بالمرارة، عن أن اللاجئين الفلسطينيين حين نزحوا من ديارهم في العام 1948 كانوا "محظوظين"، فقد تلقوا استقبالًا طيبًا من المجتمعات في سورية ولبنان والأردن والعراق ومصر، خلافًا للاجئين السوريين الذين يجري التعامل معهم، في أغلب الحالات، على أنهم غير مرغوب بهم.
في واقع الأمر، الظروف هي التي تغيرت، فعدد السكان، قبل ستين عامًا وأكثر، كان ضئيلًا، وكانت هناك حاجة إلى أيد عاملة في المشاريع الزراعية والصناعية والخدمية، ولم تكن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الغالبة على اهتمامات الرأي العام (رغم وجود تلك المشكلات)، فالغالب كانت الطموحات الوطنية والقومية للتحرر من قبضة الأجنبي الذي كان محتلًا، أو يحتفظ ببعض وجود له.
افتقاد الأمان الفردي والجماعي للاجئين السوريين، وخسارتهم الوشائج التي كانت تربطهم ببيئتهم المحلية، وغموض المصير الذي ينتظرهم، هي بعض مما يؤرق القطاعات الأكبر من هؤلاء، غير أن ما يرصده المرء خلال ذلك أن الاهتمام الإقليمي والدولي، إما أن يتخذ طابعًا إنسانيًا، أيًا كانت الملاحظات على أوجه العون والغوث، أو يتم من منظور رفع الأعباء الاقتصادية عن دول اللجوء.
ولا ضير في هذا وذاك، بل إن الاهتمام، حين يسلك هذين الاتجاهين، مطلوب، فثمة حاجات إنسانية عاجلة للإيواء والغذاء والدواء والتعليم، وهناك، في المقابل، الإمكانات المتاحة لدول اللجوء، بعضها يقصر عن تلبية حاجات مواطني هذه الدول، ومن الواجب دعم هذه الدول.
الثغرة الماثلة، والتي تزداد اتساعًا، هي في افتقاد النظرة السياسية لمشكلة اللجوء السوري وسبل معالجتها. فحين يتزايد تدفق اللاجئين، يدور الحديث، فورًا عن إمكانية استيعابهم هنا وهناك، وعن الصعوبات الجمة التي تكتنف ذلك، والتي تصاحبها نداءات تدعو لوقف استقبال المزيد، وردة الفعل هذه يمكن اعتبارها طبيعية، في ظروفٍ لا تبشر بوقف ظاهرة التدفق، غير أن هذا الموقف ينقصه التصريح بأمرٍ جوهري، وهو التساؤل عن سبب استمرار هذه الظاهرة، عن ظروف الطرد التي يتعرض لها النازحون، فيضطرون معها لمغادرة ديارهم، والتخلي عن بيوتهم وموارد رزقهم، تحت طائلة الخطر الماحق على حياتهم.
وبينما يبدي نظام بلادهم لامبالاة تامة إزاء محنة هؤلاء المقتلعين، بعد أن تسبب بها، ويعفي "نفسه" من أية مسؤولية عن رعايتهم في مواطن اللجوء (في واقع الأمر، لا يعترف بهم وهم في عداد الملايين!
وقد رفض النظام، ولو لغايات شكلية ودعائية، منح حق المشاركة لهم في ما سميت انتخابات رئاسية العام الماضي).
في هذا الوقت، ينظر المجتمع الدولي لمحنة اللجوء نظرة يغلب عليها الطابع الإنساني، كما لو أنهم ضحايا كوارث طبيعية، تهدمت بيوتهم ومدنهم، بفعل زلزال مدمر أو تسونامي جامح.
والدليل أن سائر المقاربات والمعالجات لا تشمل بندًا من قبيل: السعي إلى تمكين اللاجئين من العودة إلى ديارهم.
مبدأ الحق في العودة، والضرورة الماسّة لها يغيب أكثر فأكثر عن أجندات الرعاية والاستقبال. ولم يعد ينقص، الآن، سوى تشكيل وكالة دائمة لإغاثة وتشغيل اللاجئين السوريين، على غرار ما جرى مع اللاجئين الفلسطينيين مطلع خمسينيات القرن الماضي، وأن يتحرك مجلس الأمن لاستصدار قرار بهذا الاتجاه. علمًا أن مفوضية اللاجئين في الأمم التحدة تنشط نحو توطين (أو إعادة توطين) لاجئين سوريين في سائر دول العالم، بينما كانت "أونروا"، وما زالت تنشط في مجال الإغاثة والتشغيل للاجئين الفلسطينيين فقط.
أصدقاء سورية، وأصدقاء السوريين من العرب خصوصًا، مدعوون لمهمة مزدوجة، هي استقبال إخوتهم المقتلعين، وشق الطريق، في الوقت نفسه، نحو تمكينهم من العودة، بدلًا من انتهاج سياسةٍ تفضي عمليًا إلى تأبيد اللجوء، ومواجهة النظام الحاكم في بلادهم الذي يرفض عودتهم، ويتعامل معهم باعتبارهم فائضًا بشريًا، وليس شطرًا كبيرًا من الشعب الذي ما زال يحكمه.
ومن الوهم افتراض إمكانات تتيح عودة جزء يسير من اللاجئين، وفق خطة المبعوث الأممي دي ميستورا، فالخطة عرجاء، تفتقد لأي منظور سياسي شامل، ولا تنطوي على ضغط للنظام الذي لا يتورع بعد التنكيل بشعبه، عن طرد هذا الشعب، وقذفه خارج الحدود، وسد الأبواب أمام عودته.