الثورة .. فعل وأخلاق
أحد نبلاء المسلمين الأتقياء العقلاء في تاريخنا الإسلامي جاءه أحد الرجال - وكانت عدة ساحات للجهاد مشتعلة - وراح ينتقد أحد إخوانه ويَعيبه! واستغرق في حديثه وقتاً! ففاجأه بسؤال: هل قاتلتَ الروم؟ قال: لا، قال: الفرس؟ قال: لا، قال: أهلَ الهند والسند؟ قال: لا، فقال له مُوقظاً ومُفهّماً ومرِّبياً: سَلِم منك الروم والفرس وأهلُ الهند والسند ولم يسلم منك أخوك المسلم!!
هذه طبيعة لدى بعض الناس وهي شهوة التعالي على الآخرين والحديث عن عيوبهم وتبرئة الذات والغفلة عن ترتيب الأولويات وعدم مراعاة (واجب الوقت)... مما يستوجب أن يَرُدَّهم (الكبار) إلى ما يقتضيه الدين والتقوى والعقل والخُلُق وإلى ما يتطلَّبُه (فقه المرحلة).
واليوم بلاد المسلمين تعاني من تحديات كثيرة ومخاطر جسيمة... والثورات في البلاد التي انتصرت فيها تواجِهُها ألغامٌ خطيرة يضعها المترِّبصون بها شرّاً، وتُحيكها بقايا قُوى الأنظمة البائدة، وتُوحي بكثير من تكتيكاتها وأماكن زرعها: مراكز التآمر الدَّوْلي...
... أما البلاد التي لازالت في مخاض الصراع القاسي والدامي مع الطُّغمة المجرمة المتحكِّمة فيها -بالتحديد: النظام السوري المجرم بشراسته الوحشية وهمجيته التي فاقت كل حدود التوقعات - فإن التحديات أكبر وأقسى، والمخاطر أشد وأعتى...
لذا فإن شعوبَنا أحوجُ ما تكون إلى نُبْل الأخلاق وبُعْد النظر وإدراك شراسة المواجهة ومراعاة الأولويات والبُعد عن الخصومات والحرص على تجميع الصفوف... ولا شك أن الثورات الشريفة لا تنجح بمجرد تقديم التضحيات وتوفُّر عزيمة الإصرار على قَلْع الطغاة... وإنما تحتاج أكثر ما تحتاج- لضمان نجاحها– من أصحابها ومن سائر المناصرين لها إلى (أخلاق الثورة) بَنفْس وتيرة (فعل الثورة) من الثوار الصادقين العظماء!
وفي تراثنا المليء بالحكمة والتعقُّل وبُعد النظر ونُبْل الخلق: نصيحة الحكيم العاقل (بَشير بن عبيد الله) لمن رآه يستعد للولوج في خصومةٍ وجَدَلِ مع قريبٍ له فقال له ناصحاً: (واللهِ ما رأيتُ شيئاً أذهبَ للدين، ولا أنقصَ للمروءة، ولا أَضْيَع للّذة، ولا أشْغَل للقلب: من الخصومة)!! فانتفع بنصيحته والتفت لتوِّه إلى خصمه قائلاً: لا أخاصمك، فقال له خصمه: إنك عرفتَ أن الحق معي! فقال له: لا، ولكنْ أُكرم نفسي عن هذا...
فما أنبله من موقف! وما أقواه على مخالفة هواه! وما أدلَّ موقفَه على خُلُقه ومتانة دينه!
فالثورة (فعل) يتشكل بمحرِّكات العقيدة والإيمان وبالوعي السياسي وعزيمة البذل والتضحيات... وهي أيضاً (أخلاق) تتشكل بالحرص على عدم التنازع على المناصب ولا الاشتغال بالتُّرَّهات وحظوظِ النفوس فضلاً عن الصراعات المسلحة في صفوف الثوار، وعلى الاهتمام بتجميع الصفوف وتوحيد الكلمة، وتسمو الثورة حضارياً بالتسامح والغفران وبأنْ تكون (أخلاقُ) الثائرين المجاهدين والمناصرين لهم الصادقين في التطلّع إلى تغيير واقع المسلمين والارتقاء بأمتنا... أن تكون صدىً لنداء الغَيُور المتحرِّق صاحب العقل الكبير والإيمان العميق، والقلب السَّمْح والخُلُق النبيل...
فلا بُدّ من رأب كلِّ الصُّدوعِ
وجَمْعِ الصفوف ودرء العِلَلْ
ولا بد من قصد ذات الإلهِ
وحشدِ القُوى ليصحَّ العمَلْ
فهذا هو - حقيقةً - مفتاح الأخلاق: قصدُ ذات الإله وطَلَبُ رضاه، ونُكران ذواتنا وعدم الدَّوَرَان حول الـ(أنا)، وكل ذلك يحتاج إلى توفيقٍ من الله وعونٍ، وإلا:
إذا لم يكن من الله عَوْنٌ للفتى
فأولُ ما يقضي عليه اجتهادُهُ