الأحد 22 جمادى الأول 1446 هـ الموافق 24 نوفمبر 2024 م
السلاح المُهمّ الذي أهملته الحركات الجهادية .
السبت 22 محرّم 1436 هـ الموافق 15 نوفمبر 2014 م
عدد الزيارات : 2551

 

السلاح المُهمّ الذي أهملته الحركات الجهادية
 
نظرت إلى من كتب ونظّر من الكتّاب والمفكرين عن الثورات وحروب العصابات فرأيتهم كلهم - كفارًا ومسلمين - أطبقوا على أن كسب الحاضنة الشعبية في الثورات هو السبب المادي الأهم في كسبها، وقدموه على جميع أسباب القوة المادية الأخرى من مال وسلاح وخبرات وكوادر ودعم إقليمي أو عالمي.
وكان الجواب الواضح من أحد أهم قيادات حركة طالبان، لما سئل عن سر نجاح الحركة في التماسُك لسنوات طوال أمام الهجمة الشرسة من تحالف قوى الكفر العالمي هو باختصار: "تماسك الصف الداخلي".
للأسف تعامل الجهاديون مع قضية كسب الحاضنة الشعبية ضمن منطق الفعل ورد الفعل المبالغ فيه، ففي حين انبطحت بعض القوى المحسوبة على الإسلام السياسي لحملة الديمقراطية واستسلموا بشكل كامل لرياحها الهوجاء التي عصفت بالعالم منذ قرن وحتى الآن، كان رد فعل الجهاديين هو الرفض الكامل للاعتراف بأهمية البعد الشعبي وتماسك الصف الداخلي في إقامة الدولة التي ينشدونها، واعتبروا مجرد الحديث عن الحاضنة ضربًا من الانبطاح لفكرة الديمقراطية، وبدؤوا يؤسسون لفكر سياسي وفقه غريب يقوم على "إمارة المتغلب" و"إدارة التوحش"، وصارت التنظيمات هي إطار عملهم المفضل الذي حافظوا عليه حتى في زمن الثورات والربيع العربي، على الرغم من ضرره البالغ وربما القاتل على الثورات ذات الطابع الشعبي الجماهيري، مع أن إمارة المتغلب تعامل الفقهاء الذين أطروا لها كأمر واقع فرض على المسلمين، ولم تكن أبدًا من صفات الدولة الراشدة على منهاج النبوة التي ينبغي السعي إليها، بل نص الفقهاء الذين صححوا إمارة المتغلب أنه متى تم تيسر خلع المتغلب بدون فساد ودماء والإتيان بخليفة عن طريق الشورى فإنه يجب نزع المتغلب حينها، فكيف يكون المتغلب هو ما يصبو إليه الجهاديون ويحلمون به، وأما "إدارة التوحش" فهو عبارة عن أدبيات الحرب الشيوعية بصبغة إسلامية ولا تحمل فكرًا ينير لدولة راشدة.
 
الذي أراه أن مكان كسب الحاضنة الشعبية في العمل الإسلامي ليس كونها مصدرًا للشرعية كما في الديمقراطية، بل أراها سببًا ماديًّا لا يمكن الاستغناء عنه شأنها في ذلك شأن السلاح والمال الذي لا تستغني عنه حركة جهادية، بل أراها أهم من ذلك كله.
الحدث الأعظم في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرّخ المسلمون به هو الهجرة؛ التي هي في حقيقتها عبارة عن نزع لشجرة الإسلام من أرض لا حاضنة لها فيها وغرسها عند الحاضنة الشعبية التي تقبلها وترعاها، هذا الحدث وحده دليل كافٍ على أن الحاضنة الشعبية أهم دليل مادي لإقامة دولة الإسلام.
فالمهاجرون المكيون هم خيرة الصحابة بلا نزاع فمنهم الأربعة والعشرة وغيرهم ولم يظهر فيهم نفاق أبدًا إلا أن هذه النواة المؤمنة "التنظيم المدرب ذو الخبرات والكفاءات" ما كان ليقيم دولة الإسلام بالتغلب في مكة ولا بإدارة التوحش فيها بل انتقل بشكل كامل إلى حيث توجد الحاضنة الشعبية التي تحتضنه وتدافع عنه.
 
أهم سبب دعا الجهاديين إلى إهمال مسألة الانسياح في الحاضنة الشعبية وإقناعها واستخدامها لإقامة دولة الإسلام على أكتافها هو خوفهم من ضياع مشروعهم وتميعه بين العوام الذين أثر فيهم البعد عن الدين، وصاروا عرضة للتيارات التي تجذبهم ذات اليمين وذات الشمال، وهذا الخوف له ما يبرره فمسألة إقناع الجماهير بالمشروع الإسلامي وجعلها تفديه بأرواحها وكل ما تملك مسألة صعبة حتى الأنبياء خافت ألا تنجح في تحقيقها، فها هو نبي الله موسى يخاطب ربه عندما أرسله بالنبوة: {قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} فرد عليه الرب جل وعلا: {كَلاَّ} ردع وزجر، ولا أعلم الرب تعالى خاطب نبيًّا بـ"كلا" إلا في هذا المقام، قال: {كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}، مما يظهر أنه لا حل أمام الدعاة إلا الدعوة وكسب الحاضنة، وأن هذا هو الطريق الرباني، ولم يرشده إلى إنشاء تنظيم يتغلب به، ولا ينكر أحد احتمال أن تضيع معالم الدعوة وتتميع إذا انساحت في الجماهير الغافلة، وهذا خطر يواجه كل داعية لفكره إلا أن هذا يبقى احتمالاً ينبغي أن يكون ضعيفًا بالنسبة لداعية يحمل فكرًا نيرًا على بصيرة، أما الخيار الآخر فهو عزل التنظيم والقضاء عليه فهذا مؤكد الفشل كما شهدت التجارب السابقة.