السعادة في الرضا (*)
الراحة هي المبتغى الذي لا يبلغ في الدنيا, والسعادة هي الغاية المأمولة من الحياة بأسرها, والرضا هو السبيل إليهما معًا ..
فكثير من الناس غير راضين على أحوالهم, ولا عن أنفسهم, ولا عن شيء قد حققوه في حياتهم, فهم متأسفون على ما مضى إذ لم يجمعوا مالًا ولم يصيبوا جاهًا, ولو جمعوا مالًا أو اصابوا جاهًا فهم ساخطون على أفعالهم فيهما, وكثير من الناس غير راضين عن شؤونهم ولا أرزاقهم ولا زوجاتهم ولا أولادهم، وربما نما السخط على أنفسهم, فهم يتقلبون ليلاً ونهارًا بين مشاعر سخط وأفكار أسف, لا يعرفون للرضا طعمًا ولا يتذوقون له لذة !
فالرضا بالحال يجلب لصاحبه طمأنينة النفس وهدوء البال, ويشيع البهجة في حياته, فرحًا بكل قليل .
أما السخط فما يزيد الانسان إلا اضطرابًا دائمًا, وتمردًا وحقدًا وحسدًا, وكآبة مهما تعددت عنده الخيرات, فهو دائما يريد المزيد, بل ويشعر داخل نفسه أنه لا يملك إلا القليل .
والشعور بالرضا على الحال مقدور ممكن، وهو ممدوح غاية المدح, وهناك وقفات مهمة في هذا السبيل:
1- علينا أن ننظر لأحوال الآخرين خاصة المهمومين والمكروبين وأصحاب المصائب المختلفة, فمن تفكر في أحوال هؤلاء هان عليه كل ما هو فيه من مشاق, وإلى هذا يلفتنا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمرنا من دعاء عند رؤية أهل البلاء: (الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم به).
2- علينا ألا ننظر إلى الوراء, وألا نندم على ما فات من أعمارنا دون تحقيق ما نريد, بل يجب الاهتمام بالأيام القادمة مهما كانت قليلة فالأعمال بالخواتيم, فلا قيمة للندم المجرد إلا أن يكون ندمًا على معصية الله سبحانه، وعزمًا على الطاعة فهذا حسن مراد, لكن الندم على ما فات من كسب الدنيا لا يؤثر بشيء إلا جلب الأحزان والقعود عن النجاح .
3- لا نغتر بالدنيا, وقد ضرب الله تعالى لها مثلا حيث قال: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45], فلماذا لا نعتبر ممن سبقونا؟
فأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؟ وأين الجبارون الذين كان لهم الغلبة والنفوذ والاستبداد, قد انهار بهم الحال, وصاروا رميمًا, فغادروها وتركوها ولم يبق غير أعمالهم, وأصبحت الدنيا دنيا لغيرهم, وبقينا نحن بعدهم .
قال عثمان رضي الله عنه في آخر خطبه له: "إن الله إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة ولم يعطكموها لتركنوا إليها, إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى, لا تبطرنكم الفانية, ولا تشغلنكم عن الباقية, وآثروا ما يبقى على ما يفنى, فإن الدنيا منقطعة, وإن المصير إلى الله ".
4- التأمل في نعم الله تعالى علينا, وحمده سبحانه {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] , فنحن نمتلك من النعم الكثير ولكن لا نشعر بها, ولكي تدرك قيمة النعم تفكر لو أنك حرمت منها يومًا , عندها ستعلم قدرها وتستشعر فضل الله عليك بها .
5- الثقة بالنفس تمنح الإنسان الرضا, فالثقة تدفع صاحبها إلى الأمام وإلى علو همته والسعي للارتقاء وللعمل الجاد, والثقة بالنفس لا نصل إليها إلا بتمام الثقة بالله سبحانه, فأنت إذن بثقتك بالله سبحانه ثم ثقتك في خطواتك تستطيع أن تعوض ما فات مهما مرت الأيام, ولئن فاتت الايام على شيء لا يمكن استرجاعه، فلابأس فإن هناك غيره والتوكل على الله وإيكال الأمر إليه سبحانه خير في كل حال.
6- قرب العبد ووصاله بربه بالعبادات والتوبة والاستغفار, يبث داخله الرضا والسعادة الحقيقية .
7- فلا يحزن من كان حظه من الدنيا قلة المال أو عدم الإنجاب, لأنه قد يجلب المال والولد على صاحبهما الهموم والأحزان, فكم من صاحب أهل وولد ولكنهم غير صالحين, فكانوا من أسباب تعاسته, وأحزانه, واضطراب نفسه, وكم من غني لا يفارق الشقاء جنبيه, وكم من صاحب جاه ومنزله لكنه لم يذق طعم الاستقرار وراحة البال, فهي زينة مؤقتة, لا تخلو من المنغصات والمسؤوليات التي تحد من الاستمتاع بها, بينما نجد إنسانا لم يحظ بكثير من مال أو جاه أو يفتقد الأهل والولد لكن صدره أوسع من الأرض نفسها, مؤتنس راض بقضاء ربه .
8- تعليم النفس الرضا وتدريبها على ذلك ممكن فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الصبر بالتصبُّر)، فالزوج يحاول أن يرضى عن زوجته, ويعلم أنها قد تكون أفضل من غيرها من النساء, والزوجة تحاول أن ترضى عن زوجها وتتذكر حسناته قبل أن تتذكر عيوبه, وكم من امرىء غير راض عن أحواله وساخط على رزقه من مسكن صغير أو سيارة متواضعة أو عمل بسيط, أو أي شيء من هذا, وربما يكون هذا المسكن أو السيارة أو العمل فيها من الخير ما لا يعلم وفيها من البشر والفال والبركة ما يخفى عليه .
9- لابد أن يعلم المؤمن أن السعادة هي سعادة الحياة الآخرة , والشقاء الحقيقي ليس بنقص مال ولا ولد ولكنه شقاء الآخرة، {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 105], وقوله سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ} [الغاشية: 8-10].
10- الرضا بربوبيته سبحانه متضمن الرضا بتدبيره, وتقديره, وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه, وما أخطأه لم يكن ليصيبه, و إذا رضى العبد بربوبيته سبحانه وبألوهيته عز وجل وآمن بأسمائه وصفاته, وقام بحق عبوديته, فقد رضى الله تعالى عنه, و إذا رضى الله تعالى عنه أرضاه , وكفاه, وحفظه, ورعاه .
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الايمان من رضي بالله ربًا, و بالإسلام دينًا, و بمحمد رسولاً) رواه الترمذي.
11- من سعى نحو الرضا مخلصًا ملأ الله قلبه بالرضا مهما زخرفت الدنيا أمامه, فلا يتأثر بما يجد عند غيره.
فالصادق غني والكاذب في ضيق دائمًا, والتقي غني والفاسق في وحشة مستمرة, وفاعل الخير غني وفاعل الشر متحسر من سوء عمله, والعالم غني بعلمه والجاهل فقير لضيق وعيه, والبار لوالديه غني ببركة بره والمسيء لهما فقير محروم من نعمة البر.. وهكذا.
فلو رضينا بما عندنا سعدنا, ولو سخطنا شقينا, ولو رضينا بالقليل من الطعام شبعنا, ولو رفضنا وتبطرنا شعرنا بالفقر, ولو رضينا بما عندنا من ملبس ومسكن هدأ بالنا, ولو نظرنا لما هو أعلي منا تعبنا .
فلماذا لا نرضي وقد يأتي يوم تفحص فيه الأعمال, ويكثر فيه الزلزال, وتشيب فيه الأطفال؟
لماذا لا نرضي ونحن نعلم أن أيامنا القادمة هي بقية أعمارنا, فإذا كنا نحلم بالغني فإن خير الغنى غنى النفس, وخير الزاد التقوى وخير ما ألقي في القلب اليقين, فارض بما قسم الله تعالي لك تكن أغنى الناس!
------------
(*) باختصار