الصعود إلى القمة !
نظرت إلى السماء وسَبَحت أفكاري في فضائِها الرَّحْب، وتأمَّلت الطُّيورَ وهي تُصَفِّق بجناحَيْها، فأَلْهَمت قلبي المَحْمومَ بهُمومِ الحياةِ وصَبَواتِها المُتْرَفة، فعرفتُ بأنَّ الصُّعودَ إلى القِمَّة يُوَرِّط أهلَه الحَيْرَة، ويُشْرِف بهم على منابِر الشُّهرة، ويُلْقِي بهم في عَرَصَاتِ المَجْدِ ومَشارِبِه، وكلَّما ارْتَفَعَت مَنْزِلَتُهم قَلَّ شُكْرُهُم للنِّعَمِ السَّابِغَة، ونَسُوا ما أُهْدِيَ إليهم من فَضْلٍ، وما أُسْدِل إليهم من مَعْرُوف، فذَاقُوا لِبَاسَ الجُوعِ والخَوْف، وتَقَاسَمُوا من نواميسِ الطَّبيعةِ البشريَّة ما أخبرنا الله بلطائِفَ منها قوله تعالى في أهل سبأ: { ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} وقوله تعالى في أهل مكة: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.
لقد تَعَلَّمْتُ مِنْ تأَمُّلاتي ومُشَاهَداتِي أنَّ الصُّعودَ إلى القِمَّة طريقُهُ شاقٌّ طويل، وارْتِقَاءُ مَدَارِجِه تَحْمِلُ صَاحِبَها على بَذْلِ ضِعْفِ طاقَتِه وحيويَّتِه، فإنَّ للطَّمَعِ لذَّةً تَسْتَدْعِي الصَّبرَ على العذابِ الوَارِف، والوَجَعِ العَصِي، وأنَّ ارْتِفاعَ المنزلة تَعْقِدُ القلوبُ عليها آمالَها، وانْبِسَاطَ السُّلطان تلوذُ بحِياضِهِ الأَمَانِي، وامِْتدادَ القُوَّة لا تَنْأَى بالنَّفسِ عنِ الانْدِفاعِ والمُغامَرة، ولا تُبَرِّئُها مِنَ التِّيهِ والغُرور، والاعْتِدادِ بالحَوْلِ والطَّوْل، وبَسَطَةِ الجاهِ والبَأْس.
وأنَّ الصُّعودَ إلى القِمَّة يُفْسِحُ لأَهْلِه اسْتِقْبالَ أيَّامِهِم بمَوْفُورِ الثِّقة، ويَشْغَلُ تفكيرَهُم بالتَّخطيطِ لما هو آتٍ مُؤَمَّل، ويَجْتَاحُ قُلُوبَهُم بمُلِمَّاتِ القضايا اجْتِياحَ العَواصِف، تُدْمِيهِم تَأَوُّهاتُها المَكْلومَة بما تَدَّخِرُه المَطامِع ممَّا يحُِبُّون ويَكْرَهُون .
ولكن ما تلبث أنْ تَمْتَصَّ نشوةُ الصُّعودِ متاعِبَهُم، وتَخْلَعُ عن ذاكِرَتِهِم المُثْقَلَة ما يُؤَرِّقُها، وتُرَتِّقُ مَسامَّاتِ جِراحِهِم، وتصِلُ أسبابَ هَزِيمَتِهِم بالانْتِصَارِ عليها، وكُلَّما بلغُوا مَبْلَغًا عَلِيًّا، أو أَدْرَكُوا إِنْجازًا عظيمًا، أو نَجاحًا باهِرًا، أو ارْتَقُوا مَقامًا مَرْموقًا، تَذَكَّرُوا بأنَّ امْتِلاكَهُم للقوَّة بعد ضَعْف، والعِلْمَ بعد جَهْل، والثَّراءَ بعد فَقْر، والاسْتِغْنَاء بعد احْتِيَاج ..
فمنهم من يَدْعُوهُ ذلك إلى الارْتِفاعِ عَنِ النَّقائِص، والتَّنَزُّهِ عَنِ الصَّغائِر، مَثَلُهُم في حِرْصِهِم على الشُّكْرِ المُتَّصِل، ووَفَائِهِم الدَّائِم، وتَأَدُّبِهِم مع المُنْعِم بالعَطاء، كمَتَلِ ما جاء على لِسَانِ سليمان عليه السَّلام، لمَّا سَخَّر الله له الرِّيح والجِن، وعَلَّمَه مَنْطِقَ الطَّيْر والحَيَوان: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}.
ومنهم من يُمْعِنُ في الإِقبالِ على الشَّهَوات، والإِسرافِ في المَلَذَّات، فيُصِيبُه ما يُصِيبُ المَحْمومَ مِنَ الهَذَيان، ولكن شَتَّانَ ما بين هَذَيانِ الحُمَّى وهَذَيانِ الطَّمَع، وشَتَّانَ ما بين مَنْ يَدْفَعُه الصُّعودُ إلى القِمَّة إلى طَلَبِ المَعالِي، والاسْتِكْثارِ مِنَ الفَضائِل ومكارِمِ الأخلاق، وبينَ مَنْ يَدْفَعُه الصُّعودُ إلى أَنْ يكونَ أَكْفَرَ النَّاسِ بالنِّعمة المُسْداة، وأَجْحَدَهُم بالصَّنيعَةِ المُهْدَاة، وأَنْساهُم بالمَعْروف، وأَعَقَّهُم بالأهلِ والأَصْحَاب، وأَشَدَّهُم إِنْكارًا للحق وإِعْلانًا للباطِل، يطلُبُ الجِدَّ في مَوْطِنِ الهَزْل، والفَضَائِلَ بما يُقَوَّم بالثَّمَن، ويُحَدَّد بالكَيْل، والوَزْن، والعَدَد، ويَنْشُدُ الغايات بما يُبَرِّرُها مِنَ الوَسائِل الرَّخِيصَة، التي تُورِثُ أَهْلَها نَقْصَ المُروءَة، والإِمْعانَ في الكُفْر والجُحود .
إنَّها تَجَلِّياتٌ لبعضِ الصُّوَر الاجتماعِيَّة، الغائِرَةِ في عُمْقِِ الذِّهْنِيَّةِ المُعاشَة، وتأَمُّلاتٌ لأولئك الذين نَشْهَدُ ظُهُورَهُم وأُفُولَهُم مِنْ ذَوِي القُوَّة والبَطْش، والأَحْلامِ التي لا تَكَلُّ مِنَ البَحْثِ عن المَجْد ِالذَّاتي، وزيادةِ رِيعِ ثَرَواتِهِم، على حِسابِ نَهْبِ خَيْرَاتِ بُلْدَانِهِم وأَوْطَانِهِم، واسْتِغْلالِ وظَائِفِهِم، والمتَاجَرَةِ بالقِيََِم، يُفِيضُون على رُؤُوسِ الخَلائِقِ فَضَلاتِهِم المُشْتَهَاة بالصَّحْوِ والإِشْرَاق، فيَشُهَقُونَ بِعَذابَاتِهم، ويتَجَرَّعُونَ مَوَاقِدَهُم، ورَمادَ مَجَامِرِهِم، وتَثُورُ فيهِم مراسِيمُ الحِدَاد بنُواحِها الدَّامي، ووَحْشَتِها غير المُحْتَمَلَة، مِنْ شِدَّةِ تَلَوُّثِ أفكارِهِم بعيوبِها المُتَواتِرَة، ومفاهيمِها المُعَتَّمَة، المَبْثُوثَة على صفحاتِ تاريخِهِم القَابِعِ في الظَّلام، المَشْحونِ بطُغْيانِهِم الفَاضِح، وضَلالاَتِهِم المُنْتَهَكَة، وعِصْيانِهِم الصَّاخِبِ بعَوْراتِهِم المُشَاعَة في أُمْسِيَّاتِهِم البَهِيَّة، يركُضُون على أَدِيمِ الأرضِ وتُرابِها، ويَعْبُرونَ على أشْلائِها، ويَسْتَحِمُّون بدِمائِها، ويَغْرَفُوا ما يَرْوِي مطامِعَهُم مِنْ مَغَانِمِهِم المُسْتَطَابَة بجَرَائِمِهِم، التي تجاوَزَت كُلَّ المبادئ، واخْتَرَقَت كُلَّ الدَّسَاتير والقَوانِين الإِنسانِيَّة، وانْتَهَكَتْ كُلَّ الحُرُمات، واغْتَصَبَت كُلَّ الحقوق، تَنِمُّ عن إِرْهاصاتِهِم وشَهَواتِهِم المَكْبوتَة، ورَغَباتِهِم المُنْحَرِفَة، لا يَجِدُ فيها المُتابِع إلاَّ حالاتٍ مَرَضِيَّة، انْسَلَخَت عن دَلائِلِ الفِطْرَة السَّليمَة، والرُّوحِ الحُرَّة بهذِيلِها العَذْبِ، وشَدْوِها الطَّاهِر ...
ولكنَّ حياةً كهذه مشْحونَةْ بالمَظالِم، قد امْتَلأَت بالدُّروسِ وفَاضَتْ بالعِبَر، يكتشف منها الباحِثُ عن الحَقيقة، مَطَالِعَ الأَسرار، ومسَاقِطَ الضَّوءِ على الوَجْهِ الإِنْسَانِي، وما تُفَسِّرُه الأحداثُ حينَ تُقْبِل وتُدْبِر، وقِصَصَ الغَابِرينَ مِنْ أصحابِ الجاهِ الرَّفيع، والعِزِّ المَنِيع، والسُّلطانِ الواسِع، ممَّن غَشِيَهُم البَطْر، والطُّغيان، وسَعَوْا في الأرضِ فسادًا، فرُدُّوا إلى حياةٍ كانت عليهم نَكالاً وشرًّا، وصَعَدُوا القِمَّة ولم يسْتَقِرَّ بهم صُعُودُهُم أَََمَدًا بعيدًا، فاضْطَرَبَت الأرض مِنْ تَحْتِهِم، وزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَديدًا، فأَصْبَحُوا على ما فَعَلُوا نادِمين، فجاء التَّحذيرُ والنَّذيرُ ممَّا أصابَهُم في كثيرٍ من آياتِ القرآنِ الكريم، كما في قوله تعالى: {وكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً}، وقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
فعلى الإنسان اليوم أَنْ يَعْتَبِرَ بمَصارِعِ هؤلاءِ الأُمَمِ الباغِيَة المُتَجَبِّرَة، في واقِعِ ما نمُرُّ به من أحداثٍ ومواقِفَ عَصيبَة، وأَنْ نَظْفَرَ بما يَبْعَثُ تغييرًا وإصلاحًا حقيقيًّا على المستوى الفَردي والجَماعي، ونَتَعلَّم أَنْ نَكُونَ قِمَّةً حين نَصِلُ إلى القِمَّة، فنَرْتَقِي بالدِّنِ، والأَخْلاَقِ، ونَسْمُو بالضَّميرِ الإِنْسَانِي عن حُطامِ الدُّنيا، وأن نسْتَقِيم على طريق الهِداية والطَّاعَة، ونخلِص نِيَّاتنا وسَرَائِرنا، ونَخْلَع عن غاياتِنا ما يُبَرِّرُها من الوسائل الدَّنِيَّة، أو تسخِيرِها لطُغيانِ الطُّغاة، وظُلمِ الظَّالمين، ونُفَرِّغ الذَّاكِرَة من مَخْزونِ مَطامِعِها، وذَخيرةِ الآمال ومباهِجِها أَنْ تُرْسِلَ بَوْحَها في الفَضاء، ونَكُفَّ هَوانَا عن تَصَدُّعَاتِ فَرْطِ النَّشْوَةِ المُغَنَّاة، أو أنْ تَعْبَثَ بنا عَواطِفُنا المُورِقَات، وتُوقِظ فينا تَجَاعِيدَ العَطَشِ للَمَلذَّات، وأَفْراحَنَا المَشْبُوبَةَ بعِطْرِ الأَحلام، المَفْرُوشَةَ بسَرَائِرِ التَّرَف، ووَسَائِدِ السَّمَر الطَّرُوب .
إنَّ النَّجاحَ الحقيقي في الحياة ليسَ في بُلوغِ القِمَم، والتَّرَبُّعِ على عُرُوشِها، باسِْتخدامِ أَساليبَ قَذِرَة، أو بالتَّمَلُّق لهَؤُلاء وأُولئِك، وانْتِهازِ الفُرَص أَسْبَابًا لغاياتٍ ساقِطَة، أو إِشْباعِ أَطْماعَ مَنْ لا يَشْبَع، وإِفْعَام جُيوبَ لا تُفْعَم، والمُتاجرة بالقلوبِ والعقول، والضَّمائِر والأخلاق ..
إنَّما النَّجاح الحقيقي في العَمَلِ الجَاد، والتَّنَزُّه عن الدَّنِيَّات، وارْتِقاء القِمَم بالطُّرُق المَشْرُوعَة، ولا خَيْرَ في حياةٍ ليسَ فيها للدِّينِ مِنْ حِمَايَة، ولِْلأخلاقِ مِنْ رِعَايَة، ولِلضَّمَائِرِ مِنْ اسْتقَامَة، وللمَناصِبِ مِنْ كَرامَة ..
ولا خَيْرَ في صُعُودٍ يَعًقُبُهُ السُّقُوطُ مِنَ القِمَّة إلى الهَاوِيَة، لأنَّهُ مَهْمَا اتَّصَلَ سُلْطانُ الباطِل فسُلْطانُ الحَقِّ مُنْتَصِر، ومَهْما عَلاَ صِرْحُ الجَوْرِ وشُيِّدَ بأَضْخَمِ الحِجَارَة وأَصْلَبِهَا، وتَفَاخَمَ بالصُّخُورِ الشَّامِخَات فهو مُنْدَك، وصِرْحُ العَدْل يعْلُو ولا يٌعْلَى عليه .