هل أخطأنا تقدير قوة تنظيم الدولة الإسلامية؟
بعد انطلاق المواجهة بين كتائب من الجيش الحر وفصائل إسلاميّة، وبين تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام مطلع العام الجاري، وانحسار نفوذ التنظيم عن مناطق واسعة من سوريا، وتمركزه في قواعد؛ ثابته كمدينة الرقة والتي اتخذها التنظيم مركزًا له، ومدن ريف حلب الشرقي (الباب، جرابلس، منبج) والتي اعتبرها التنظيم خط دفاع أول عن بقاءه وجوده في سوريا، كتبت في هذه الزواية بتاريخ 31 كانون الثاني/ يناير 2014م مقالاً بعنوان "الدولة الإسلامية في العراق والشام باقية وتزول".
لخصت في ذلك المقال أبرز الأسباب التي تحرم تنظيم الدولة من الاستمرار والبقاء على المدى الطويل وفي مقدمتها مسائل تتعلق بالإلغاء والتكفير، العلاقة السيئة مع المجتمعات المحلية التي يوجد ويستقر فيها... إلخ.
أما أهم مقومات ومحددات بقائه التي أوردتها فتتلخص في مستوى إجرامه عبر العمليات الانتحارية، والتي تشكل رعبا للخصم تجعله يتجنب مواجهته، وعدم وجود استراتيجية واضحة متفق عليها من القوى التي تواجه التنظيم.
اليوم، وبعد الإنجازات التي حققها تنظيم الدولة وسيطرته على مدن ومواقع هامة في العراق وسوريّا، وجدنا انجرافًا وتهافتًا من الخبراء والمختصين في الحركات الجهاديّة للتبشير بالزمن "الداعشي" والدولة "الداعشية" التي انتقلت من الحيز الافتراضي إلى الحيز الواقعي.
وسأحاول في هذا المقال الوقوف على الظروف الموضوعية والذاتية، التي وفرت لتنظيم الدولة انطلاقة جديدة استغلها لإعادة ما خسره من مواقع و"هيبة"، ومن ثم فرض نفوذه كفاعل يمتلك قدرة نسبية على التأثير في تفاعلات الإقليم، واستراتيجيات دوله، ومن أبرزها:
أولاً: غياب الإجماع على قتال تنظيم الدولة: كما هو معروف، فإن من بدأ المواجهة ضد التنظيم في سوريا هو جيش المجاهدين، لحقته جبهة ثوار سوريا، وفصائل من الجبهة الإسلامية تضررت من تمدد تنظيم الدولة ونفوذه، وأخيرًا جبهة النصرة. شكلت هذه الفصائل، وبدون أن تخطط أو تتأطر في جسم واحد، حلفًا عسكريًا في مواجهة التنظيم، واستطاعت طرده من إدلب، وريف حماة الشمالي، ومدينة حلب وأريافها باستثناء الريف الشرقي، ولاحقًا من دير الزور. لكن هذه الكتائب التي اشتركت في العنوان العام للمواجهة، اختلفت في التفاصيل، وتباينت في الرؤية، وهو ما منح التنظيم فرصة للملمة قواته المندحرة في مدينة الرقة ليتخذها مقرًا رئيسا له.
ففي الوقت الذي تبنى جيش المجاهدين، وجبهة ثوار سوريا وكتائب من الجيش الحر الحل الاستئصالي، والذي يقتضي إكمال المعركة حتى نهايتها وطرد التنظيم بشكل نهائي من سوريا، تبنت فصائل الجبهة الإسلامية ولاسيما حركة أحرار الشام موقفًا ملتبسًا مبهماً، فانخراطها في المواجهة التي انطلقت 3 كانون الثاني/ يناير 2014، لم يكن هدفه استئصال التنظيم وطرده نهائيًا، بل تحجيمه وإضعافه وإجباره على قبول المبادرات المطروحة، كمبادرة الشيخ المحيسني، والتي تقضي بتشكيل محكمة شرعية مستقلة لفض الخلافات. وعلى الرغم من رفض تنظيم الدولة لهذه المبادرات، فإن الفصائل الإسلامية وفي مقدمتها أحرار الشام وجبهة النصرة، لم تطور خطابها واستراتيجيتها القتالية تجاه التنظيم، ومالت للمهادنة والقبول بما تحقق لجهة تحجيم وتقزيم التنظيم.
المفارقة الأولى هنا، أن الجبهة الإسلامية رفضت اتخاذ موقف واضح من التنظيم وقتاله على الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعته بعض فصائلها لاسيما لواء التوحيد الذي عانى الأمرّين في ريف حلب الشمالي جراء الهجمات الانتحارية للتنظيم. والمفارقة الثانية، أن الجبهة الإسلامية لم تتخذ موقفا واضحا من تنظيم الدولة حتى مواجهات دير الزور في أواخر شهر آذار/ مارس الماضي. وللأسف ربطت الجبهة خطابها وطريقة تعاملها مع تنظيم الدولة بموقف جبهة النصرة، التي تأخرت بدورها في إعلان عدائها الكامل والتام للتنظيم. وكنتيجة لذلك، ضيعت كتائب المعارضة على اختلاف تصنيفاتها فرصة هامة للقضاء على التنظيم وطرده بشكل كامل من سوريا.
ثانيًا: الانشغال العسكري عن قتال التنظيم: يعود ذلك إلى أسباب عدة وفي مقدمتها تصعيد قوات النظام والميليشيات الحليفة له هجماتها العسكرية على مناطق حيوية تسيطر عليه المعارضة، ولاسيما مدينة حلب وريفها؛ ما أدى إلى انشغال قوات المعارضة في سد الثغرات التي أوجدتها المواجهة مع تنظيم الدولة بغية تحصين مواقعها، والصمود أمام محاولات النظام المتكررة فرص حصار مطبق على المدينة. وساهم تراجع تدفق الإمدادات الخارجية في التأثير على فاعلية بعض القوى التي تصدت لمحاربة التنظيم في ريف حلب الشمالي والشرقي، الأمر الذي جعل مدينة الرقة، المركز الرئيس للتنظيم في سوريا، مستقرة وغير مهددة، بشكل منح التنظيم الفرصة لاستعادة زمام المبادرة والهجوم على مواقع المعارضة واستنزاف قدراتها خارج مناطق وجوده.
من ناحية أخرى، انشغلت كتائب دير الزور بمسائل ثانوية كتنظيم استثمار النفط، والعوائد الاقتصادية، عن تهديدات التنظيم المتكررة للمدينة، الأمر الذي وضعها في موقف حرج جدا بعد أن نجح التنظيم في السيطرة على غالبية أرياف دير الزور، وفرض حصارًا مطبقًا على المدينة. وبالطبع ينسحب الموقف في حلب ودير الزور على مناطق أخرى متعددة في سوريا.
ثالثًا: تواطؤ نظامي الأسد والمالكي مع التنظيم ضد الثوار: لا نستحضر هنا نظرية المؤامرة، والخطاب التبريري الذي يقول بأن تنظيم الدولة هو صنعية أسدية أو إيرانية، بل نستحضر تقاطع الأهداف والمصالح بين كل من تنظيم الدولة والنظام السوري وحكومة المالكي، فاستمرار تنظيم الدولة وازدياد نفوذه كان في قائمة أولويات الاستراتيجية العسكرية لنظام دمشق؛ لاستثماره دعائيا وإعلاميا والدلالة على أن "بديله" هو "التطرف" و"الإرهاب" و"الفوضى". انطلاقًا من ذلك، تجنب نظام الأسد ولفترات طويلة استهداف تنظيم الدولة أو الاشتباك معه، بل على العكس ساعد النظام تنظيم الدولة على الانتصار في مواجهات عديدة مع فصائل المعارضة، كما جرى في مدينة الباب بريف حلب، وفي دير الزور وغيرها. وبالتالي وجد الثوار أنفسهم في مواجهة عدوين يمتلكان القوة العسكرية والإمكانات.
أما حكومة المالكيّ، فبعد اندلاع الانتفاضة السلمية والمسلحة في العراق، عملت ما أمكن، لإلصاق تهمة الإرهاب والتطرف بالحراك الاحتجاجي المطالب باستقالة المالكي واستعادة الحقوق المسلوبة، وإلغاء سياسة التهميش.
وبدأ التواطؤ بين حكومة المالكيّ وتنظيم الدولة منذ منتصف عام 2013، عندما سهل المالكي هروب مئات القيادات والعناصر الفاعلة في التنظيم، وبالطبع وجدت هذه العناصر الهاربة من سوريا "قاعدة" يمكن الاستقرار فيها لإعادة فاعلية ونشاط التنظيم، واستمر هذا التواطؤ باستهداف مركز لمواقع التنظيم الحدودية لدفع مقاتليه للانتقال نحو سوريا والاستقرار فيها. وترجح تقارير استخباراتية عدة، أن زعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبو بكر البغدادي قد نقل مقر إقامته إلى مدينة الرقة، واتخذها عاصمة لدولته الإسلامية. وبناء عليه، أصبحت خطط التنظيم تصاغ وتبدأ من سوريا؛ بمعنى أنه أصبح تنظيمًا جهاديًا عراقيًا، لكن مركزه ورأسه في سوريا.
رابعًا: ثورة العشائر في العراق: جاءت ثورة العشائر المسلحة في الأنبار والفلوجة، والمدن العراقية الأخرى لتكون طوق نجاة لإعادة تأهيل التنظيم وانخراطه ضمن العمل المسلح ضد حكومة المالكي. حرص قادة الحراك الاحتجاجي في العراق على نفيّ أي علاقة وارتباط بين حراكهم السلمي ولاحقًا المسلح، وبين تنظيم الدولة. وفي الوقت الذي اشتدت واتسعت المواجهات في الأشهر الأخيرة الماضية، بين عشائر العراق والجيش العراقي، دخل تنظيم الدولة إلى المناطق الملتهبة وطرح نفسه كقوة عسكرية إلى جانب الثوار العراقيين. قوبل وجود تنظيم الدولة في صفوف الثوار المسلحين بالرفض في البداية، إلا أنه وبعد فترة زمنية قصيرة، ونتيجة للقصف الجوي والمدفعي العنيف، غض الثوار الطرف عن وجود عناصر التنظيم.
وفي الحقيقة، نهج التنظيم مع الثوار العراقيين سياسة مغايرة عن تلك التي اتبعها في سوريا، ففي البداية لم يلجأ إلى فرض البيعة والولاء، وركز على الجوانب والأهداف المشتركة في المواجهة بدون التنطع بشعاراته الكبرى كإقامة الدولة الإسلامية وفرض الحدود... إلخ. وعلى خلاف ما يروج عن قوة التنظيم، فإن مقاتليه هزموا في أكثر من موقعة أمام قوات المالكي، وكان آخرها في سامراء، ذلك أن التنظيم لم يعتد على المواجهة المباشرة والطويلة خلال السنوات الأخيرة، بل ركز على السيارات المفخخة والانتحارين والانغماسيين. وعندما بدأت المعركة الأخيرة السريعة في الموصل، حافظ تنظيم الدولة على هذا الدور، إذ طلب منه تجهيز نحو 15 انتحاريا لاقتحام الموصل، في حين تتولى باقي الفصائل المشاركة عملية الهجوم العسكري، وهو ما قبله تنظيم الدولة لكنه فرض شروطه بأن تكون رايته هي الراية الوحيدة في حال جرى اقتحام الموصل. وبالفعل نفذ التنظيم نحو 10 عمليات انتحارية قبل اقتحام الموصل، محدثًا خللاً أمنيًا، أسهم في انسحاب وهروب معظم فصائل الجيش العراقي الموجودة هناك، وما أعطى العشائر والفصائل الأخرى اندفاعة للسيطرة على مدن أخرى في تكريت وصلاح الدين.
وهنا نؤكد القول بأن التنظيم ورغم حضوره المهم في العمليات الأخيرة، فإن دوره محدود بحكم قلة عدد مقاتليه (ترجح كثير من المصادر أن عدد قوات التنظيم في العراق لا تتجاوز 15 ألفًا) مقابل المساحات الواسعة.
في الخاتمة، منحت الظروف السابقة، ولاسيما بعد أحداث العراق تنظيم الدولة اندفاعة كبيرة ليتمدد، ويتوسع نفوذه، ويلغي الحواجز والعوائق في الاتصال الجغرافي بين فرعه السوري والعراقي. لكن وعلى الرغم من ذلك، فإن تنظيم الدولة لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال مشروع سلطة مستقبلية، فعدا عن وحشيته، ونهجه المنفر للحاضنة الاجتماعية، فإن الدول الإقليمية والقوى الدولية لا تقبل بأن يسيطر التنظيم على محور جيوسياسي هام (سوريا والعراق)؛ لأن ذلك يشكل تهديدًا على الإقليم والعالم.
تأسيسًا على ما سبق، فإن الفصائل العسكرية في العراق وسوريا مطالبة بالتمايز عن التنظيم، وعزله، وتحجيمه كونه يقاتل لغايات لا تتطابق والقضايا العادلة التي من أجلها انطلقت الثورات.