تعيش حمص المحاصرة اليوم أياماً صعبة للغاية على المستويات كافة: الطبية، والغذائية، والخدمية، وغيرها، ويطول الحصار حتى يتعدى ثلاث مائة وعشرين يوماً، والأحياء خارج الحصار وضعها صعب هي الأخرى، فغلاء الأسعار والمعيشة، والاعتقالات، والحواجز، والتهديدات، وبعد الأهل والأبناء عن البيوت، وفي الأرياف أيضاً قصف ونزوح، والمشكلات الكثيرة الناتجة عن الحروب... بين كل هذا وذاك ينتظر الجميع النصر.
من الجميل أن يفهم الإنسان آيات الكون؛ فيسير وفقها، ويماشيها، ويسعى للعمل وفق مراحلها، ففي النهاية يقول المنطق: إن لكل نتيجة أسبابًا تأخذك إليها, قال الله تعالى لرسوله الكريم {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ}، آيات علينا أن نفهمها، ونستوعبها، ونعمل وفقها لنصل إلى النتيجة المنشودة.
ولعل التصفية التي تجري اليوم هي إحدى تلك الآيات التي يجب أن نستوعبها، فالناس عموماً تمر بمرحلة "فلترة"، فهناك من يُسل في مرحلة من المراحل بالأمر الواقع، ويقول: الأمر فوق طاقتي ولن أستطيع أن أكمل، وهناك من لا يصبر على فقدان المال أو الولد أو الثمرات التي كانت بين يديه، فيتراجع، وهناك من لا توصله طاقته إلى نهاية الطريق المنشود.. فالأمر في النهاية هو عبور مراحل، وقفز حواجز، وتجاوز عقبات، وعبور محطات، توصلك نحو النهاية.. النهاية التي يأتي عندها النصر.
قال الله تعالى {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 249-251].
لقد خرج مع طالوت فئة من طالبي النصر، وتخلَّفت فئة أخرى كانت تسأل الله أن يرسل لهم ملكاً تقاتل معه، فلما أرسله لهم تولى أكثرهم، وخرج معه من يطلب النصر وينشده ويسعى وراءه، وكانت هذه مرحلة التصفية الأولى.
ثم عبر جيش طالوت المرحلة الثانية بأعداد لا يعلمها إلا الله (قيل ثمانون ألفاً)، وهي مرحلة عبور النهر، حيث أبلغهم أن عليهم ألا يشربوا من النهر رغم ما أصابهم من عطش، إلا أن أكثرهم رضي أن يخرج من جيش طالوت ويخالف أمره بالشرب؛ فالعطش شديد للغاية، وقيل إن من شرب من النهر يقاربون ستة وسبعين ألفًا، وأصغى للأمر أربعة ألاف فقط بقيت مع طالوت جاهزة ومستعدة للقتال، ساعية وراء النصر تطلبه.
فلما تجاوز هؤلاء النهر واقتربوا لقتال عدوهم، وعرفوا أن عدد عدوهم وعُدَّته كبيرة وكثيرة، قالوا: لن نستطيع أن نقاتل، ولا نقدر أن ننتصر، فتراجعوا، فكانت مرحلة ثالثة من مراحل التصفية.
بقيت بعدها فئة قليلة ثابتة على الحق، واثقة بالنصر، ترى أمام أعينها وتدرك أنَّ الأمر لا يتعلق بعدد ولا بعُدَّة، ولا بقليل ولا كثير، فقالوا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ}، فتعلَّقت قلوبهم بالأسباب الحقيقة للنصر، واستعانوا بالصبر والصلاة على عدوهم، فأتى النصر عريضاً، واضحاً، جلياً، وقتل داودُ رأسَ العدوِّ وقائدَه: جالوت.
نعم، لقد عبرت هذه الفئة القليلة مراحل كثيرة.. ووصلت للتصفيات النهائية بطاقة الصبر وحماسته، وطلب العون من الله، فأتى الصبر من أوسع الأبواب وأعرضها.
المراحل التي مرت علينا في ثورتنا المباركة كثيرة، انهارَ فيها البعض، وتوقف فيها آخرون، وتراجع غيرهم، ونطق غيرهم بأنه لا طاقة لنا بهذه الحرب.
وعلى الجميع أن يدرك أن النصر لا يتعلق بالعدد ولا بالعدة، وعلينا أن نستعين بالصبر والصلاة؛ فهذه سنن الله وآياته وتقاديره في النصر المقبل بإذن الله.